فكر الدفاع الاجتماعي

La politique pénitentiaire de la défense sociale


1-                  تمهيد وتقسيم :
     لاشك أن تعبير الدفاع الاجتماعي La défense sociale تعبير موغل في القدم وتمتد جذوره إلى كافة النظريات التي قيلت في السياسة العقابية على مر العصور القديم منها والحديث ، غاية الأمر انه كان يأخذ في كل مرحلة مفهوماً مختلفاً.

فنراه في المذاهب القديمة التي تسند إلى الدولة ونظام العقاب وظيفة نفعية هدفها الدفاع عن المجتمع ضد عوامل الاضطراب فيها  وعلى الأخص الجريمة. كما نراه أيضا في كتابات الفلاسفة القدماء في العصر الإغريقي أمثال أرسطو وفى العصر الوسيط والحديث لدى ومونتيسكيو وفولتير وبنتام وهوبز وفويرباخ ورومانيوزى. فيقول هذا الأخير تعبيراً عن فكرة الدفاع الاجتماعي "إن غاية القانون الجنائي والعقوبة ليس هو تعذيب أو إيلام كائن حي ، أو إشباع رغبة في الانتقام ، أو التكفير عن جريمة ، أو اعتبارها كأن لم تكن ، ولكن هو إرهاب كل آثم حتى لا يضر مستقبلا بالمجتمع"[1].
وكان لهذه الفكرة صدى أيضاً لدى الفكر التقليدي بزعامة بيكاريا الذي رأى أن هدف العقوبة هو الردع العام على أساس حق المجتمع في الدفاع عن نفسه. كذلك فإن للدفاع الاجتماعي حظ كبير لدى أنصار المدرسة الوضعية ، ولكن بمفهوم جديد مؤداه أن الهدف من النظام الجنائي عامة هو الدفاع عن المجتمع ضد المجرم لا ضد الجريمة ، وهو ما يوجب التضحية بالمجرم في سبيل حماية المجتمع. ولهذا سلمت هذه المدرسة في سبيل الدفاع عن المجتمع بإمكانية توقيع الجزاء الجنائي على أساس الخطورة الإجرامية للشخص لا الفعل الإجرامي أو الواقعة المؤثمة ، مما يوسع من دائرة الجزاء ليشمل كافة المجرمين أيا كان حظهم من الإدراك وحرية الاختيار.

إلا أنه ومنذ بدايات القرن العشرين بدأ الدفاع الاجتماعي يأخذ بعداً جديداً مؤداه أن هدف النظام الجنائي كله لا يجب أن ينصرف للدفاع عن المجتمع ضد المجرم ليقي المجتمع شره وخطره وإنما الهدف هو التوجه للمجرم ذاته من أجل معاونته على استعادة تكيفه مع المجتمع. فالدفاع الاجتماعي في صورته المعاصرة هو حركة نظرية وعملية تهدف إلى توجيه القواعد والتنظيمات الجنائية نحو العمل على استعادة المجرم من خارج المجتمع ليعاود الاندماج فيه مرة ثانية[2].

ولهذه الحركة المعاصرة للدفاع الاجتماعي اتجاهان أحدهما متطرف ، يتزعمه الفقيه الإيطالي فيليبو جراماتيكا Filippo Grammatica ، وهو الدفاع الاجتماعي التقليدي ، والأخر معتدل بزعامة مارك أنسل Marc Ancel القاضي والمستشار بمحكمة النقض الفرنسية ، المؤسس للدفاع الاجتماعي الجديد. وسوف نفرد لكل اتجاه بعض من الصفحات التالية.

2-                  أولا : الدفاع الاجتماعي التقليدي (مفهوم جراماتيكا) :
3-                  تمهيد وتقسيم :
     ينسب الدفاع الاجتماعي المعاصر إلى الأستاذ الإيطالي فيليبو جراماتيكا الذي كان يعمل أستاذاً للعلوم الجنائية بجامعة جنوا ، وأسس بها مركزاً لدراسات الدفاع الاجتماعي في عام 1945 تولى عقد العديد من المؤتمرات العلمية الدولية حول الدفاع الاجتماعي كان أولها في سان ريمو San Remo في عام 1947 وكان ثانيها في لييج Liège في عام 1949 ، والذي خلاله تم إنشاء الجمعية الدولية للدفاع الاجتماعي L’Association Internationale de la Défense Sociale برئاسة جراماتيكا نفسه. ثم تولت الجمعية نفسها عقد العديد من المؤتمرات للدفاع الاجتماعي ، كان من بينها مؤتمر أنفرس Anvers في عام 1954 ومؤتمر ميلانو Milano في عام 1956 وكان أخرها المؤتمر الدولي السابع للدفاع الاجتماعي في عام 1966 في مدينة ليتشي Licci بإيطاليا.

وقد انتقلت عدوى الدعوة للدفاع الاجتماعي إلى الأمم المتحدة في عام 1948 فأنشأت قسماً للدفاع الاجتماعي يتبع المجلس الاقتصادي والاجتماعي بهدف توجيه النشاط في مجال الوقاية عن الجريمة ومعاملة المجرمين ، مع الاهتمام بصفة خاصة بانحراف الأحداث. ومن الصعيد الدولي إلى الصعيد الإقليمي داخل الوطن العرب ي تسربت أفكار الدفاع الاجتماعي فأنشئت المنظمة الدولية العربية للدفاع الاجتماعي بمقتضى الاتفاقية التي أقرها مجلس جامعة الدول العربية في عام 1960.

هذا الانتشار يوجب علينا أن نبين الدعائم الفلسفية للدفاع الاجتماعي التقليدي قبل أن نستعرض تقديرنا لهذا الاتجاه.

4-                  أ : الدعائم الفلسفية للدفاع الاجتماعي التقليدي :
     بين جراماتيكا دعائم الدفاع الاجتماعي في مؤلفه "مبادئ القانون الجنائي المقترح" Principi di diritto penale soggettivo في عام 1934 ثم في مؤلفه مبادئ الدفاع الاجتماعي Principi di difesa sociale في عام 1961[3].

وتتلخص أهم أفكاره في الدفاع الاجتماعي في النقاط التالية :

5-                  هدم المفاهيم الجنائية التقليدية وإحلالها بمفاهيم الدفاع الاجتماعي :
     يبدأ جراماتيكا أفكاره بانتقاد المفاهيم التقليدية للقانون الجنائي المرتبطة بالجريمة والمسئولية الجنائية ، على أساس أن هذه المفاهيم ما زالت تجعل من الفعل الإجرامي محوراً للنظام الجنائي ، مع التغافل عن شخص الفاعل نفسه. وعلى هذا ارتبطت المسئولية بالواقعة المسندة وصار تطبيق العقوبة يجرى على نحو تلقائي لا يحتاج سوى النظر إلى الجريمة والعقوبة المقررة. ففي القانون الجنائي التقليدي يرتكز بنيان الجريمة على مقدار ما تمثله من ضرر على المجتمع أو خطر عليه ، كما أن العقوبة ترتبط بالجسامة الذاتية للسلوك ومدى كثافة ما يمثله من ضرر ومقدار ما ينتج عنه من خطر ، ومن ثم تصبح العقوبة موضوعية المعيار لا علاقة بينها وبين شخص الفاعل.

وعلى هذا فيرى جراماتيكا إلغاء قانون العقوبات بمفاهيمه المرتبطة بالجريمة والمسئولية وإحلاله بقانون أخر للدفاع الاجتماعي ، يستعاض فيه عن الجريمة باسم "الانحراف أو العصيان الاجتماعي" وبدلاً من المجرم يستبدل به "الشخص المضاد للمجتمع" أو صاحب السلوك اللااجتماعي ، وأن يستبدل بالعقوبة بعض تدابير الدفاع الاجتماعي.

وعلى هذا فإن جراماتيكا يرى في الدفاع الاجتماعي نظاماً قانونياً مستقلاً يحل محل القانون الجزائي لا أن يندمج فيه أو يتكامل معه[4].

6-                  إحلال فكرة التكيف الاجتماعي محل المسئولية الجنائية :
     انتقد جراماتيكا فكرة المسئولية الجنائية بمفهومها التقليدي المرتبط بالجريمة وبالخطأ قائلاً أن هذا المفهوم قاصر عن أن يدفع عن المجتمع حالات الانحراف التي لا ترقى إلى مستوى الجريمة ، كما لا تكفل الحماية الوقائية للمجتمع قبل وقوع الجريمة نفسها. لذا فإن جراماتيكا يقترح استبدال فكرة المسئولية الجنائية بفكرة أوسع هى فكرة "التكيف الاجتماعيSociabilité".

ولديه أن القانون المقترح - "قانون الدفاع الاجتماعي" – يجب أن يهدف إلى مناهضة كل شكل من أشكال عدم التكيف الاجتماعي ، سواء ظهر عدم التكيف في صورة جريمة أو ظهر في أي شكل أدنى من ذلك. وهو في هذا السبيل يقترح استخدام عدد من تدابير الدفاع الاجتماعي يكون غرضها الوقاية والعلاج والتربية ، وأساسها الدراسة العلمية والتجريبية وفق معطيات العلوم الإنسانية ، كتشغيل العاطلين ونشر التعليم والتثقيف بالنسبة للأميين وعلاج المرضى والشواذ الخ. وتلك التدابير ليست جزاءات ولكنها وسائل تربوية وعلاجية ووقائية تنفذ على الفرد غير المتكيف اجتماعيا (مجرم أو غير مجرم) إكراهاً ، على نحو ما يحدث بالنسبة للمريض بمرض معدٍ أو المجانين ، وتنفذ في أماكن أبعد ما تكون عن معنى السجن.

وقد اشتراط جراماتيكا في هذه التدابير - والتي ستحل محل العقوبات - أن تكون موحده ، وأن تشتمل على تدابير وقائية ، وأن تكون غير محددة المدة بحيث يمكن تعديلها أو تبديلها أو إلغائها خلال التنفيذ ، وفق ما تسفر عنه عمليات الرقابة على شخصية الإنسان غير المتكيف اجتماعياً[5].

7-                  الجوانب الشخصية للفرد كأساس للدفاع الاجتماعي :
     لقد نادى جراماتيكا بجعل الجوانب الشخصية للفرد ، سواء الاجتماعية أو البيولوجية أو النفسية ، وليس جسامه الضرر الناشئ عن الجريمة ، محوراً لاهتمام قانون الدفاع الاجتماعي المقترح. وعلى هذا فالجزاء (التدابير الاجتماعية عند جراماتيكا) ينبغي أن يرتبط لا بما تحويه الجريمة من ضرر أو بما تمثله من خطر وإنما بالتقدير الشخصي للفاعل على ضوء الظروف التي أحاطت بسلوكه. إذاً ترتبط المسئولية عند جراماتيكا بالحالة النفسية والصحية لصاحب كل سلوك منحرف. وبالتالي تصبح المسئولية الجنائية مجرد إعلان بوجود نفسية فردية مضادة للمجتمع ، أي تنبئ عن فرد غير متكيف اجتماعياً.

على هذا النحو يصبح للجزاء هدف أسمى هو إصلاح هذا الانحراف - "عدم التكيف أو العصيان الاجتماعي" - تمهيداً لعودة الفرد إلى حياة الجماعة الطبيعية. هذا الأمر يقتضى الأخذ بتدابير متنوعة ومتفاوتة بحسب التكوين النفسي وبحسب القالب الاجتماعي للفاعل. فلم يعد المبدأ "هو أن لكل جريمة عقوبتها" ولكن أصبح المبدأ هو أن "لكل شخص غير متكيف اجتماعيًا تدبير يلائمه".

بيد أن جراماتيكا يؤكد على أن بلوغ تلك الأهداف بطريقة متكاملة وعامة يوجب أن تمتد الثورة الإصلاحية لتشمل كل مناحي الحياة الاجتماعية من نظام أسري واقتصادي وتعليمي وصحي. بمعنى أخر وجوب إتباع سياسة اجتماعية تقضي على أسباب الانحراف أو العصيان الاجتماعي في مهده.
8-                  ب : تقدير الاتجاه الجراماتيكي (الدفاع الاجتماعي التقليدي) :
     يعود الفضل لجراماتيكا في توجيه الأنظار نحو الصفة الإصلاحية للجزاء الجنائي ، واعتبار هذا الإصلاح حق من حقوق الفرد ومقرر لمصلحته إذا ما ثبت انحرافه اجتماعياً. فالكشف عن هذا الانحراف يلقى على المجتمع الالتزام باتخاذ ما يلزم من تدابير من أجل إعادة التلاؤم بين الفرد وحياته النفسية وبين الحياة الاجتماعية. كما يعود له الفضل في الدعوة لتبنى سياسة عامة لإصلاح النظام العائلي والاقتصادي والتعليمي. وربما هذا هو ما دعى عدد من الدول إلى أن تتدخل في تشريعاتها الكثير من مفاهيم الدفاع الاجتماعي ، خاصة بالنسبة للتدابير التي تطبق على طوائف معينة من المجرمين كالأحداث ومرضى العقول والمشردين. ومثال ذلك قانون المتشردين والشواذ الصادر في أسبانيا في عام 1923 ، وقانون تدابير الأمن الصادر في ألمانيا في عام 1927 وقانون الدفاع الاجتماعي الصادر في بلجيكا عام 1930. وكان قانون الدفاع الاجتماعي الكوبي في عام 1934 أوضح القوانين أخذاً بمفاهيم الدفاع الاجتماعي ، حيث قد وضع أسس هذا القانون جراماتيكا نفسه. كما يعد مشروع قانون العقوبات المصري لعام 1967 من أحدث المشروعات التي تبنت بعض مفاهيم الدفاع الاجتماعي ، خاصة فيما يتعلق بالتدابير واجبة الإتباع حيال بعض أنماط الانحراف الاجتماعي.

وبالرغم من كل هذا فإنه عيب على هذا الفقيه تطرفه في الأفكار حين دعى إلى إلغاء فكرة الجريمة والمسئولية الجنائية والمجرم والعقوبة ، أي القضاء على كل مفاهيم قانون العقوبات التقليدية. ولا شك أن من شأن تلك الدعوة - إذا ما طبقت - أن تعرض النظام الاجتماعي كله للفوضى ، كما تعرض مبدأ الشرعية للخطر ، مما قد يوقع العدوان على الحقوق والحريات الفردية. وحتى لو سلمنا بهذا الإلغاء - رغم وضوح الأفكار المبتغى إلغائها - فإن المفاهيم المقترح الأخذ بها ، كعدم التكيف أو العصيان الاجتماعي والشخص المضاد للمجتمع والسلوك اللااجتماعي ، مفاهيم يصعب تحديدها ويشوبها الكثير من الغموض[6].

هذا التطرف دعا بعض مؤيدي الدفاع الاجتماعي إلى محاولة تهذيب أفكار جراماتيكا ورد العدوان الذي حاول القيام به على مفاهيم القانون الجنائي التقليدية. وهذا بالفعل ما حاول القيام به المستشار مارك أنسل ، مكونا ما يعرف "بالدفاع الاجتماعي الجديد".



[1] د. يسر أنور علي وآمال عثمان ، المرجع السابق ، ص333.
[2] لمزيد من التفصيل راجع : السيد يس ، السياسة الجنائية المعاصرة ، دراسة تحليلية لنظرية الدفاع الاجتماعي ، دار الفكر العربي ، 1973.
[3] F. Grammatica, Principi di diritto penale, Torino, 1934 ; add. Principi di difesa sociale, Padova, 1961.
[4] R. Schmelck et G. Picca, op. cit., p. 59 et s ; R. Merle et A. Vitu , op. cit., p. 34 et s.
د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص366.
[5] M. Ancel, La défense sociale nouvelle, un mouvement de politique  criminelle humaniste, Paris, 2ème éd. Cujas, 1966 et 3ème éd. Paris 1981.
ترجمة د. حسن علام ، 1991 ، منشأة المعارف ، الإسكندرية ، ص120 وما بعدها.
[6] د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص371-372.

2 Comments

  1. أنا أتفق مع غراماتيكا في كل شيء قاله .. لأنه يفكر بشكل راق جدا وأعتبر أن قانون العقوبات وجب إلغائه لأنه لا يحترم الذات الإنسانية و يذلها ! سوف أوضح لماذا .. لأن القاضي حينما يصدر الحكم العقابي على المتهم فهو يعاقب نفسه في الحقيقة وليس المتهم ! وهذا سيرمي القاضي داخل متاهة سلوكية تؤدي به إلى إقتراف أخطاء فظيعة مستقبلا قد تودي به إلى عقاب أخروي أشد قسوة من العقابات الوضعية ! فهو يهين الإنسان بالإنسان وهذه ليس من العدالة في شيء ! إسمي Alwawa Driss from morocco

    ReplyDelete
  2. أنا أتفق مع غراماتيكا في كل شيء قاله .. لأنه يفكر بشكل راق جدا وأعتبر أن قانون العقوبات وجب إلغائه لأنه لا يحترم الذات الإنسانية و يذلها ! سوف أوضح لماذا .. لأن القاضي حينما يصدر الحكم العقابي على المتهم فهو يعاقب نفسه في الحقيقة وليس المتهم ! وهذا سيرمي القاضي داخل متاهة سلوكية تؤدي به إلى إقتراف أخطاء فظيعة مستقبلا قد تودي به إلى عقاب أخروي أشد قسوة من العقابات الوضعية ! فهو يهين الإنسان بالإنسان وهذه ليس من العدالة في شيء ! إسمي Alwawa Driss from morocco

    ReplyDelete

Post a Comment

Previous Post Next Post