محاسبة الموارد البشرية
محاسبة الموارد البشرية
.لقد أدى التحول الجوهري في الاقتصاد العالمي من اقتصاد يعتمد على الصناعة إلى اقتصاد قائم على المعرفة  إلى نشوء طلب على "خدمات التقنية العالية" يقدمها أفراد يتمتعون بقدرات علمية ومهنية عالية ،  وفي بيئة كهذه، يصبح هناك تركيز متزايد على رأس المال البشري وتركيز أقل على رأس المال المادي لتقديم هذه الخدمات.
ومن اجل التهيئة للاقتصاد القائم على المعرفة، لا بد من تخصيص استثمارات كبيرة في مجال الموارد البشرية. وتشمل هذه الاستثمارات، على سبيل المثال لا الحصر، التوظيف والتدريب وهي استثمارات تتجاوز في بعض الحالات ما يتم تخصيصه في الموارد المادية.ولو رغبت إحدى المؤسسات، على سبيل المثال، بتوظيف مدير تنفيذي كبير، فإنها قد تضطر للقيام بعملية بحث واسعة، والإعلان في الصحف، وتكبد مصاريف استقدام المرشحين المحتملين بل وحتى دفع أجر عال لشركة متخصصة مقابل البحث عن هذا المدير التنفيذي الكبير، ويعامل الاستثمار في هذا المدير التنفيذي والذي قد يصل الى مبلغ ضخم على انه مصاريف تشغيلية بموجب مبادئ المحاسبة المتعارف عليها حاليا، في حين يعامل الاستثمار الأقل في جهاز الحاسوب المحمول على انه من أصول المؤسسة.  مما يعني أن هناك خلل واضح في قياس الدخل عندما يتم قيد جميع النفقات على الموارد البشرية كمصاريف على الرغم من حقيقة أن هذه المصاريف ما كانت لتظهر لو أنها لم تمثل استثمارات في رأس المال البشري - أصل ذو منافع مستقبلية متوقعة.
أن الموارد البشرية هي الأصول الأكثر قيمة في مؤسساتنا، ولكننا لا نفعل شيئا لمحاسبة القيمة الهائلة لهذه الموارد،  ففي مؤسستي وحدها، مجموعة طلال أبوغزاله، نوظف ما يقارب 700 مهني من ذوي المؤهلات العالية في مجالات تخصصاتهم، وننفق مبالغ ضخمة في توظيف وتدريب وتأهيل موظفينا، ومع ذلك فان بياناتنا المالية لا تفصح عن أي قيمة لرأس المال البشري الذي طورناه،  وأعمالنا كأي أعمال في مؤسسات الخدمات الأخرى تعتمد على قيمة الناس العاملين لدينا،  والعنصر البشري عامل جوهري في المؤسسات الصناعية ذات الاستثمارات الضخمة في الأصول المادية، وتظل هذه الأصول في هذه المؤسسات الصناعية خامدة وتحتاج تدخلا بشريا لتبرير قيمتها، ويعتمد قطاع الخدمات بشكل كامل تقريبا على الأصول التي لا نفصح عنها في البيانات المالية، وبالتالي هناك خطأ ما. وقد أخفقت معايير المحاسبة في الاعتراف بالأصول الأكثر قيمة لدينا- رأس المال البشري الذي طورناه.
ومما يلفت الانتباه أن أسواق الأوراق المالية "البورصات" اعترفت بقيمة رأس المال البشري من خلال وضع قيمة سوقية على شركات الخدمات والتقنية التي تتجاوز القيمة الدفترية لأصولها.
وفي بداية الستينات، تم انجاز بحث لتطوير سبل محاسبة الأصول البشرية. ولم يلق هذا البحث القبول الملائم، ونحن الآن في القرن الواحد والعشرين، نقترب من العام 2006، ولم يسبق أن كان للموارد البشرية في أي وقت من الأوقات قيمة أعلى مما هي عليه في الوقت الحاضر. ولذلك، فان هذه هي فرصتنا للمبادرة والبدء من جديد.
وأحد المواضيع التي يطرحها النقاد عادة هي أننا تجاوزنا عصر العبودية، وأننا لا نملك الناس الذين يعملون معنا،  وهذا صحيح، ولكن دعوني أقول لكم أن هناك حالات في المحاسبة نقوم فيها بالاعتراف بأصول لا نملكها.  فعلى سبيل المثال، لا تمثل عقود الإيجار الرأسمالية ملكية قانونية للأصول، ومع ذلك تتم محاسبتها كما لو كانت عمليات شراء للأصول بالتقسيط لأنه يغلب عليها جوهر معاملة الإيجار ، وبالرغم من أننا لا نملك الناس الذين يعملون معنا، فان هناك منفعة مستقبلية يمكن جنيها من مجموعة الموارد البشرية التي تعمل في مؤسساتنا الخدمية، ونزيد حجم أعمالنا بفضل كفاءات ومؤهلات موظفينا. وبالتالي فإننا نملك قيمة مؤهلة للاعتراف بها على أنها أصل في ميزانيتنا العمومية.
ومن هنا يؤدي الإخفاق في الاعتراف بقيمة رأس المال البشري في ميزانياتنا العمومية الى عدد من النتائج المضللة:
أولا : التقليل من قيمة الأصول. فالمستثمرون يرغبون بالتأكيد في معرفة قيمة الموارد البشرية في المؤسسة، والمحللون يرغبون في الخروج بمقياس أفضل لعوائد الاستثمار إذا ما تمت محاسبة جميع الأصول بما في ذلك رأس المال البشري.
ثانيا : التقليل من قيمة الدخل، إذ أن قيد النفقات الهائلة في توظيف وتدريب وتنمية الموارد البشرية كمصروفات سيقلل حتما من الدخل.
ثالثا : إمكانية حصول تلاعب في الدخل من عام الى عام نتيجة للتغييرات في نفقات التدريب والتنمية،  ففي سنوات الكساد، قد تخفض المؤسسات نفقات التدريب والتنمية وبالتالي تقليص المصاريف وزيادة الدخل، ومن شأن هذه السياسة قصيرة النظر أن تلحق الضرر بتلك المؤسسات.  أما رسملة الموارد البشرية فستؤدي الى تجنب هذه النتائج المضللة.
وقد طُرحت العديد من الأساليب للاعتراف بقيمة الموارد البشرية، وبعض هذه الأساليب أنجع من غيرها، وسأناقش ثلاثاً منها. 
1- يجوز الإفصاح عن تكلفة التدريب والتنمية في خطاب رئيس مجلس الإدارة في التقرير السنوي. ومع أن هذا الإفصاح إعلامي الى حد بعيد، إلا انه لا يحظى بنفس الأهمية كما لو كان تقريرا في البيانات المالية.
2- يجوز إعداد بيانات مالية تكميلية تظهر تكلفة التدريب والتنمية على أنها أصل - غير ملموس- خاضع للإطفاء.  ومرة أخرى، فان البيانات التكميلية لا تحل محل البيانات المالية الأساسية ويمكن تجاهلها.
3- يجوز أن تظهر البيانات المالية التقليدية بشكل ملائم تكلفة التدريب والتنمية على أنها أصل خاضع للإطفاء. وبالطبع، يتنافى هذا العرض مع مبادئ المحاسبة المتعارف عليها والمتبعة ولكنه يؤدي الى بيانات أفضل عن الحالة المالية لتلك المؤسسات التي تعتمد على رأس المال البشري.
وأرى أن الوقت قد حان للاعتراف في بياناتنا المالية بالأصل الأكثر قيمة لدينا. وتبتعد معايير المحاسبة الدولية حاليا عن التحفظ والتقيد الشديد بالتكلفة وتسمح بإعداد التقارير عن القيم المتداولة في البيانات المالية الأساسية،  وقد تشتمل معايير المحاسبة كذلك على أحكام لتثمين رأس المال البشري.

Post a Comment

Previous Post Next Post