الحُريَّةَ الاقتِصَادِيَّة المقَيّدَة
والركن الثاني من أركان الاقتصاد الإسلامي هو الحرية الاقتصادية المقيدة، ومضمون ذلك أن هذا النظام لا يسمح للأفراد بحرية اقتصادية مطلقة، ولكنه يقيد هذه الحرية بحدود من القيم التي يؤمن بها الإسلام.
وفي هذا الركن أيضاً يختلف الاقتصاد الإسلامي عن الاقتصاديين الرأسمالي والاشتراكي اختلافاً بيناً، فالاقتصاد الرأسمالي يكفل للفرد الحرية الاقتصادية المطلقة ليزاول ما يشاء من أعمال وبالأسلوب الذي يراه، على ضوء مصلحته الشخصية فقط وطبقاً لما يعتقد أنه يحقق له أكبر قدر من الربح.
أما موقف الاقتصاد الاشتراكي الماركسي من الحرية الاقتصادية فهو على طرف نقيض من موقف الاقتصاد الرأسمالي ذلك أن الفرد لا يملك حرية الإنتاج أو الاستثمار.
والأمر لا يقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى ما هو أقسى، فالفرد لا يملك حرية اختيار أو تحديد نوع العمل الذي يقوم به، بل و أكثر من هذا فإن النظام لا يترك للأفراد تحديد السلع التي يرغبون في استهلاكها، بل تقوم الحكومة بتحديد تلك السلع ثم تعمل على إنتاجها، وتقوم بتوزيعها بعد ذلك على الأفراد ببطاقات.
ما موقف الإسلام من هذه الحرية الاقتصادية؟:
اعترف الإسلام بالحرية الاقتصادية ولم ينكرها أو يصادرها، ولكنه لم يطلق لها العنان، ففي الوقت الذي اعترف فيه الإسلام بالحرية الاقتصادية نجده قد وضع عليها قيوداً تستهدف تحقيق أمرين:
الأول: أن يكون النشاط الاقتصادي مشروعاً من وجهة نظر الإسلام.
الثاني: كفالة حق الدولة في التدخل؛ إما لمراقبة النشاط الاقتصادي للأفراد، أو لتنظيمه، أو لمباشرة بعض أوجه النشاط الاقتصادي التي يعجز عنها الأفراد، أو يسيئون استغلالها.
أولاً: يجب أن يكون النشاط الاقتصادي مشروعاً:
الأصل أن كل نشاط اقتصادي مشروع في ظل الإسلام إلا ما ورد النص بتحريمه، وذلك تطبيقاً لقاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة.
أما ما جاءت النصوص بتحريمه من أوجه النشاط الاقتصادي، فالملاحظ أنه قليل جداً إذا ما قيس بالأوجه المباحة التي هي الأصل في النشاط الاقتصادي.
الناظر في أوجه النشاط الاقتصادي التي حرمها الإسلام يجد أنه يجمع بينها أنها جميعها قد تنكبت طريق الفطرة السليمة؛ لأنها تقوم إما على الرشوة أو استغلال النفوذ والسلطان، أو على غش الناس، أو ابتزاز أموالهم بالباطل، أو التحكم في ضروريات معاشهم، أو انتهاز حالات عوزهم وحاجاتهم.
ولقد استهدف الإسلام من تحريم هذه الأوجه من النشاط الاقتصادي أهدافاً ثلاثة:
الأول: أن تقوم علاقات الناس الاقتصادية على أسس من التكافل والتراحم والتعاطف والصدق والعدل، بدلاً من التباغض والتنافر والتظالم والغش.
الثاني: دفع الناس إلى العمل وبذل الجهد لكسب المال وتنميته، بدلاً من الالتجاء إلى وسائل الاستغلال الوضيعة.
الثالث: إغلاق المنافذ التي تؤدي إلى تضخم الثروات في أيدي بعض الأفراد.
وقد حرم الإسلام صوراً خاصة من النشاط الاقتصادي:
فقد حرم الربا: وحكمة تحريم الربا إنما يرجع إلى المضار الاقتصادية والاجتماعية التي تترتب عليه، فمن الناحية الاقتصادية فإن الطرق الربوية تعتبر وسيلة غير سليمة للكسب؛ لأن الفائدة التي يحصل عليها المقرض لا تتأتي نتيجة عمل إنتاجي، فهذه الفائدة عبارة عن مبلغ استقطع من مال المقترض وبالتالي من الثروة العامة، بدون أن يحدث القرض زيادة في إحدى الثروتين، فالزيادة التي تأتي لأموال بعض الناس عن طريق الربا هي زيادة في الظاهر، ولكنها ليست زيادة في الواقع؛ لأنها لا تضيف شيئاً إلى ثروة الأمة العامة.
كذلك فإن انتشار التعامل بالربا مدعاة إلى الكسل وإلى البطالة وإلى خلق طائفة من القاعدين يكسبون المال عن طريق الانتظار وحده دون جهد أو عمل.
ومن الناحية الاجتماعية، فإن المجتمع لا يستفيد شيئاً من العمليات الربوية؛ لأنها لا تضيف شيئاً إلى ثروته ولا تزيد من قدرته وإمكاناته.
وحرم بيوع الغرر: والغرر هو في الأصل الخطر، وتدخل فيه البيوع التي لا يحيط بكنهها المتبايعان، وهو الجهل بالثمن أو المثمن، أو سلامته، أو أجله.
والأمثلة على هذا البيع كثيرة، منها بيع الثمار قبل أن تنضج، وبيع السمك في الماء، والطير في الهواء، وبيع حمل الحيوان قبل أن يولد.
وتحريم هذا النوع من البيوع ثابت بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله عن بيع الغرر"، وحكمة تحريم هذا النوع من البيوع هي سد باب الخلافات والمنازعات.
ثانياً: تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي:
من حق الدولة في ظل الإسلام أن تتدخل في النشاط الاقتصادي الذي يباشره الأفراد، سواء لمراقبة هذا النشاط أو لتنظيمه، أو لتباشر بنفسها بعض أوجه النشاط الاقتصادي الذي يعجز عنه الأفراد، أو يسيئون مباشرته.
من ذلك تدخل ولي الأمر لتحقيق التوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع إذا لاحظ اختلال ذلك التوازن، وهو ما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين وزع فئ بني النضير على المهاجرين وحدهم دون الأنصار، اللهم إلا رجلين فقيرين؛ وذلك لكي يقيم التوازن بين المهاجرين الذين كانوا قد تركوا أموالهم في مكة وفروا بدينهم إلى المدينة، وبين الأنصار الذين كانوا يملكون المال والثروة، ومن ذلك أيضاً بيع عمر السلع المحتكرة جبراً عن محتكريها بثمن المثل.
وسائل حماية الملكية الخاصة والعامة:
شرع الإسلام لحماية تلك الملكية أموراً تحقق تواجدها، والإبقاء عليها:
1- حسن النية في التملك، والشكر لصاحب النعمة، واستصحاب تقوى الله، وتنمية الوازع الديني، مهابة لله وخوفاً منه.
2- إخراج الزكاة، وعدم كنـز الأموال، وإخراج النفقات الواجبة والمستحبة.
3- تحريم الاعتداء على الأموال بأي نوع كان، كالسرقة والغصب.
4- أداء الأمانة كما أمر الله بها.
5- كتابة الدين، وتوثيق العقود، والمعاملات.
6- الاعتدال بالاستمتاع بمباهج الدنيا، وعدم الإعراض عن الآخرة.
7- الحجر على السفيه لصالح نفسه وصالح غيره:
والسفيه هو: المتلاف المبذر لماله؛ إما لعدم حسن التصرف كما في الصبي والمجنون، وإما لفسقه، ورغبته في الاستمتاع بملاذ الدنيا، فهؤلاء الثلاثة يمنعون من التصرف في أموالهم.
والحجر على الإنسان لحق غيره كالحجر على المفلس لحق غرمائه، وعلى المريض في التبرع بزيادة على الثلث.
8- إيجاد فرص العمل وتهيئته للناس.
9- رقابة السلطة:
من وسائل حماية الملكية رقابة السلطة، ولقد كان لولاية المحتسب أبلغ تأثير في حماية الأموال من الضياع، وذلك بمراقبته للأسواق والنظر في مكاييلها، وموازينها، ومتابعة الأسعار، وحالات الغش والاحتكار، ومراقبة الخياطين والحدادين، والأطباء، والصيادلة ويضمنهم ما أتلفوه بسبب إهمالهم، وتفريطهم.
ثالثاً: التْكَافُلُ الْاجْتمَاعِيُّ:
والركن الثالث من أركان الاقتصاد الإسلامي هو مبدأ التكافل الاجتماعي، ومؤدي التكافل الاجتماعي أن تضمن الدولة لكل فرد فيها مستوى لائقاً للمعيشة، بحيث إذا حال الفقر أو المرض أو الشيخوخة دون تحقيق هذا المستوى تكفلت الدولة عن طريق الزكاة بتحقيقه.
وهذا المستوى اللائق للمعيشة هو ما أطلق عليه الفقهاء المسلمون (حد الكفاية) تمـيزاً له عـن (حد الكفاف).
وإذا كانت الزكاة هي الوسيلة الأولى لتحقيق التكافل الاجتماعي إلا أن الإسلام لم يكتف بحصيلة الزكاة، وإنما قرر أن في المال حقاً آخر سوى الزكاة، وشرع الإرث تفتيتاً للثروة.

الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي:
مفهوم الإنتاج في الإسلام هو: بذل الجهد الدائب في تثمير موارد الثروة المباحة، ومضاعفة الغلة من أجل رخاء المجتمع، ودعم وجوده، وقيمه العليا
يحتل موضوع الإنتاج حيزاً كبيراً في نفوس الناس على اختلاف درجاتهم ومستوياتهم؛ وذلك لارتباطه بزيادة الدخل ورفع مستوى المعيشة.
ويناقش هذا الموضوع من خلال دور الإنسان في الاكتساب والارتزاق، ثم نظرة المسلم إلى العمل باعتباره المصدر الرئيسي للإنتاج، وأنواع العمل المتاحة واختلافها وتعددها، وارتباط العمل بمسالكه السليمة الطيبة وأهمية تجنبه للوسائل الخبيثة في العمل والارتزاق، ثم نبين حقوق العمال وواجباتهم ثم نعالج العناصر الرئيسية لتكوين رأس المال.
النظرة المادية للإنتاج وعوامله ووسائله أنه هو الأمر الأساسي في حياة الإنسان، والمجتمع بمعنى أن يكون الإنتاج هو السيد الآمر، والإنسان هو العبد الذليل الخاضع.
المسلم والعمل:
يعتبر الإسلام العمل هو الوسيلة الأولى للارتزاق والدعامة الأساسية للإنتاج، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة)) [رواه مسلم].
والأرض على سعتها هي ميدان عمله وحركته، لا يحد عزيمته، ولا يقف أمام طموحه إلا ما حده الله -عز وجل- من حدود الحلال والحرام. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [(15) سورة الملك]، ولا يقتصر مفهوم العمل على الاحتراف أو الامتهان أو الاستصناع أو الاتجار، وإنما يتسع حتى يشمل كل عمل أو منفعة يؤديها الإنسان مقابل أجر يستحقه، سواء أكان عملاً يدوياً أو ذهنياً أو إدارياً أو فنياً، وسواء أكان لشخص أو لهيئة معينة أو للدولة، فالأولوية الخاصة والعامة عمل
واجبات العمل:
1/ أن تعرف مستلزماته ومتطلباته حتى يتمكن العامل من الوفاء بها، فيتقن العمل ويؤديه على أحسن وجه.
2/ الإخلاص والإتقان؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [(30) سورة الكهف]، ومن إتقان العمل حسن رعايته والشعور بالمسؤولية تجاهه.
3/ الوفاء بالعقود.. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [(1) سورة المائدة].
4/ الحساب والمساءلة: ومن الواجبات التي فرضها الإسلام وأصلح بها الحياة في شتى نواحيها واجب الحساب و المساءلة؛ فإن النفس الإنسانية إذا تركت لشهواتها انحرفت، ولذلك أقام الإسلام فيها رقيبين دائمين يكمل أحدهما الآخر، الأول فواعظ الإيمان في قلب كل مسلم، والثاني فسلطان القانون، وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحاسب عماله وولاته.
حقوق العمال:
1/ استيفاء الأجر: يقول الله تعالى في الحديث القدسي ((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره))، وقال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)).
2/ حق الكفاية والرعاية: وهو ضمان كفالة العاملين، وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية لهم ولذويهم، وهذا أمر مقرر لجميع أبناء المجتمع مكفول لهم، فهو من مسؤلية كل راع في رعيته، ومن المسؤلية التي تقوم عليها الدولة وترعاها.
عن المستورد بن شداد الفهري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من ولي شيئاً فلم تكن له امرأة فليتزوج امرأة، ومن لم يكن له سكن فليتخذ مسكناً، ومن لم يكن له مركب فليتخذ مركباً، ومن لم يكن له خادم فليتخذ خادماً، فمن اتخذ سوى ذلك كنـزاً، أو إبلاً جاء يوم القيامة غالاً أو سارقاً)).
حوافز الإنتاج في الإسلام:
1- ترغيب الإسلام فيه وارتباطه بالعبادة:
2- نهى عن السؤال والاستجداء:
4- القيام بدور الاستخلاف في الأرض، وبيان ما يتطلبه من تعاون بين الناس:
وتنمية هذا الشعور يجعل المستخلف الصالح يدرك أهمية الإنتاج ليس لأجله فقط، ولا لأجل عصره، بل مسؤلية عامة أمام الأجيال اللاحقة.
5- الاستشعار بتسخير الله الكون للإنسان لغرض عمارة الأرض وأهمية الاستفادة من ذلك.
عناصر الإنتاج المشروع:
أولاً - العمل:
هو: كل مجهود بدني، أو ذهني يقصد به الإنسان إيجاد أو زيادة منفعة مباحة.
ثانياً - رأس المال:
و رأس المال ينقسم إلى قسمين:-
الأول: رأس المال النقدي.
الثاني: رأس المال العيني: من آلات، ومعدات، وأدوات، وعقار.
ثالثاً - الاستفادة من خيرات الأرض والموارد الطبيعية الأخرى:
فخيرات الأرض كثيرة، ومتنوعة سواء ما كان في باطنها، أم عليها.
الإنتاج المحرم في الاقتصاد الإسلامي ويشمل:
1- تنمية المال عن طريق الإضرار بالمجتمع.
2- الربا.
3- بيوع الغرر.
4- استغلال النفوذ للحصول على المال:
روي أنه خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق، فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة، فرحب بهما، وسهل، ثم قال: "لو أقدر لكما أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى ها هنا مال من مال الله، أريد أبعث به إلى أمير المؤمنين، ويكون الربح لكما"، فقالا: "وددنا ذلك، ففعل، وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا، فأربحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر بن الخطاب قال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب: "ابنا أمير المؤمنين، فأسلفكما! أديا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، فلو نقص هذا المال أو هلك لضمناه، فقال عمر: أدياه. فسكت عبد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين، لو جعلته قراضاً، فأخذ عمر بن الخطاب رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال.
5- السرقة: وهي أخذ المال على وجه الخفية والاستتار من حرزه.
6- الغصب: وهو الاستيلاء على مال الغير بغير حق.
7- أجرة، وثمن ما حرم فعله، وعمله كمهر البغي، وحلوان الكاهن.
8- الرشوة.
9- الاحتكار.
10- القمار والميسر.

Post a Comment

Previous Post Next Post