اختلف مفهوم الزمن في الرواية الجديدة عنه في الرواية التقليدية، فإذا كان الزمن في الرواية التقليدية يعني الماضي فحسب، فإنه أصبح في الرواية الجديدة يعني مدة التّلقّي أو القراءة، ذلك أن تماهياً قد حدث بين زمن المغامرة (أو القصة المحكية)، وزمن الكتابة (أو السرد)، وزمن القراءة... وأصبح الزمن موضوعاً
السرد الاستذكاري) هو الاسترجاع أو العودة إلى الوراء عند (جينيت)، والإخبار البعدي عند (فاينريش) H.Weinrich هو خاصية حكائية نشأت مع الحكي الكلاسيي، وتطورت بتطوره، ثم انتقلت إلى الأعمال الروائية الحديثة. فالقصة ـ لكي تُروى ـ يجب أن تكون قد تّمت في زمن ما، غير الزمن الحاضر، لأنه من المتعذر أن تُحكي قصة لم تكتمل أحداثها بعد. وهذا ما يفسر ضرورة قيام تباعد معقول بين زمن حدوث القصة وزمن سردها.‏
إن كل عودة للماضي تشكّل، استذكاراً يقوم به لماضيه الخاص، ويحيلنا من خلاله على أحداث سابقة على النقطة التي وصلتها القصة. وهناك وظائف أخرى للاستذكار منها: الإشارة إلى أحداث سبق للسرد أن تركها جانباً ثم اتخذ الاستذكار وسيلة لتدارك الموقف وسدّ الفراغ الذي حصل في القصة، أو العودة إلى أحداث سبقت إثارتها، تكراراً يفيد التذكير، أو لتغيير دلالة بعض الأحداث السابقة. (2)‏
والاستذكار(أو الاسترجاع) ثلاثة أنواع: استرجاع خارجي يعود إلى ما قبل بداية الرواية، واسترجاع داخلي يعود إلى ماضٍ لاحقٍ لبداية الرواية، واسترجاع مزجي يجمع بين النوعين السابقين.‏
وتتجلّى مظاهر السرد الاستذكاري في (مدى الاستذكار) أو المسافة الزمنية التي يطالها الاستذكار، ومثاله: قصة الهجرة أو النزوح التي يرويها والد عزيز تارة، ووالدته تارة أخرى، كما ترويها أخته أحياناً، أو يرويها بعض المهاجرين، في بداية الجزء الثالث (الجوزاء) من الثلاثية، وفي استعادة عزيز ذكرياته في المقاومة الوطنية ضد الفرنسيين، عندما اشترك في ثورة حماة مع فوزي القاوقجي وسعيد العاص وغيرهما. واعتماد هذه الشخصيات التاريخية الحقيقية أعطى الشخصيات التخييلية مصداقية. كما يتجلّى في استرجاع (شمس) لذكرياتها: "حين كشف عزيز اللثام عن وجهها يوم كانت فارساً ملثماً، فتبيّن لـه أنها الشمس التي تحتجب خلف قناع. تشعر (شمس) وهي في فراشها أنها ما تزال هناك بين يديه، قرب الينبوع، بكل ذلك الدفء، بكل تلك الدهشة، تبوح لـه بسرّها، سرّ الأنوثة التي كمنت طويلاً ثم تفجّرت ينبوعاً من عطاء" (ص 23).‏
كما تتجلّى مظاهر السرد الاستذكاري في (سعة الاستذكار) التي تقاس بالسطور والفقرات والصفحات التي يغطيها الاستذكار في زمن السرد. ومثاله "ومرقت في ذهنه (عزيز) صور: اشتباكات، مغامرات، معارك. ثم مرق عثمانيون، وأبو شعيب، فرنسيون، وغورو، ثورات، وحروب. وهاهو ذا الآن يتحوّل إلى تاجر حبوب يجوب حوران وينقل حنطتها وشعيرها إلى المدينة" (ص14). وكل كلمة من هذا (الاستذكار) توحي بأحداث وأشخاص كثيرة، وتفجّر سيلاً لا يتوقف من التداعيات

Post a Comment

أحدث أقدم