التنوع البيولوجي وتغير المناخ: بين العزل والإقصاء
9 -    شهد عام 1992 تحولا كبيرا بفضل انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية، المعروف أيضا باسم ”مؤتمر قمة الأرض“. وقد شكل هذا المؤتمر خطوة هامة إلى الأمام لأنه أوصلنا إلى مرحلة قطعت فيها الدول تعهدات جدية من خلال إبرام معاهدات متعددة الأطراف، بدءا باتفاقية التنوع البيولوجي([1]). وشهد ذلك العام أيضا ظهور الشعوب الأصلية على الساحة الدولية في مجال السياسات البيئية والحفاظ على التنوع البيولوجي. ففي ديباجة هذه الاتفاقية يشار إلى ’’السكان الأصليين‘‘ ويُعترف لهم بالفضل في الحفاظ على ’’الموارد البيولوجية‘‘. كما يؤخذون في الاعتبار لأسباب عملية أيضا (المادة 8 (ي)). ولكن لا يُنظر إليهم باعتبارهم شعوبا، شعوبا يمكنها، بصفتها هذه وبحد ذاتها، التمتع بالحقوق وتحمّل المسؤوليات، بل باعتبارها ’’مجتمعات سكان أصليين‘‘ تابعة للدول بما في ذلك، ضمنا، الحالات التي لا تسيطر فيها الدولة على أراضي الشعوب الأصلية، وهي الأراضي التي تكون عادة الأكثر تنوعا على الصعيد البيولوجي. ولكن الدولة ملزمة، لإدارة التنوع البيولوجي، بالحصول على ’’موافقة ومشاركة‘‘ مجتمعات السكان الأصليين وإشراك هؤلاء السكان في الاستفادة مما تجنيه تلك الإدارة من فوائد. وما يُفهم ضمنا أيضا هو واجب تلك المجتمعات بأن تشرك الدولة في ما لديها من معارف على صعيد التنوع البيولوجي.
10 -  وتحصر الاتفاقية دور مجتمعات السكان الأصليين في المجال المحلي الأضيق، أيّ موقعهم الطبيعي. وعلى جميع المستويات الأخرى، تغيب الشعوب الأصلية تماما عن الاتفاقية. فالاتفاقية تنصّ على عقد مؤتمرات منتظمة للأطراف. والشعوب الأصلية، التي لا تظهر حتى بصفتها هذه في الاتفاقية، ليست أطرافا فيها. فالأطراف فيها هي الدول التي تصدق عليها. ومؤتمرات القمة تعقدها الدول، على الرغم من أنه، عمليا وبمبادرة وضغط من الشعوب الأصلية، بات هناك حضور لهذه الشعوب في تلك المؤتمرات ولكن ليس بصفتها هذه على وجه التحديد، بل كهيئات تشارك بين الجلسات وقبلها، ويمكنها الإسهام في إجراء تقييمٍ ما وتقديم المقترحات، وكذلك من خلال اختيار وفود الدول لها ودمجها فيها([2]). وتعقد مؤتمرات القمة المعنية بالتنوع البيولوجي بين الدول حصرا، دون مشاركة ممثلين عن الشعوب بحد ذاتها.
11 -  وفي مؤتمر قمة الأرض نفسه المعقود في ريو في عام 1992، اعتُمد جدول أعمال القرن 21: برنامج العمل من أجل التنمية المستدامة، حيث يقصد بالرقم القرن الحادي والعشرون، مع تكريس فصل، هو الفصل 26، ’’للإقرار بدور السكان الأصليين ومجتمعاتهم المحلية وتعزيزه‘‘([3]). ويقترب هذا الفصل، دون أن يشير إلى الشعوب الأصلية بصفتها هذه، من اعتماد نهج قائم على الحقوق من خلال إقامة صلة صريحة مع التطور الموازي للقانون الدولي المعني بالشعوب الأصلية. بيد أنه يقترب من اعتماد هذا النهج لافتا إلى أن بعض الأغراض التي يسعى لتحقيقها سبق أن صيغت ’’في صكوك قانونية دولية من قبيل الاتفاقية المتعلقة بالسكان الأصليين والقبليين (رقم 169) لمنظمة العمل الدولية، يجري إدراجها في مشروع الإعلان العالمي لحقوق السكان الأصليين الذي يعدّه فريق الأمم المتحدة العامل المعني بالسكان الأصليين التابع للجنة حقوق الإنسان‘‘.
12 -  وهذا المشروع هو ما سيصبح في نهاية المطاف، في عام 2007، الإعلان المتعلق بحقوق الشعوب الأصلية. وليس أكيدا أن مشروع الإعلان كان، في عام 1992، يتبع النهُج المنصوص عليها في الاتفاقية رقم 169 لمنظمة العمل الدولية، مثلما يؤكَّد هنا، رغم أن حق الشعوب الأصلية في تقرير مصيرها كان مدرجا فيه كأساس لحقوق أخرى متصلة بجدول أعمال القرن 21، كالحق في الأرض وفي الموارد ذات الاستخدام التقليدي وحق تلك الشعوب في اتباع الثقافة الخاصة بها لتنظيم هذه الموارد وإدارتها. وهذا أمر سنتناوله لاحقا. وما يجدر التأكيد عليه الآن هو غياب أيّ فارق جوهري من حيث النهج المتبع إزاء وجود السكان الأصليين بين اتفاقية التنوع البيولوجي وجدول أعمال القرن 21، رغم أن جدول الأعمال هذا يتسم بأهمية خاصة من حيث تشديده على إمكانية إسهام الشعوب الأصلية فيه، وليس بالضرورة على المستوى المحلي فقط. ويتضمن الفصل 26 من جدول أعمال القرن 21 بشكل أساسي تطبيقا لنموذج برونتلاند على حالة الشعوب الأصلية، فيقترح لهذا الغرض مفهوم التنمية المستدامة المستقلة لمجتمعات السكان الأصليين. والتركيز لا يزال منصبا على بلوغ الهدف المتمثل في تحقيق تنمية لا مكان لاستقلالية الشعوب الأصلية في تصميمها وتنفيذها، على الرغم من أنّ صفة ’’الأصلية‘‘ هذه تضاف دون أن ينتج عنها أي أثر على صعيد تقرير تلك المجتمعات لمصيرها.
13 -  وما زال تقرير برونتلاند أساس التصور الذي يقوم عليه عموما، بعد إعلان ريو، بناء المؤسسات ووضع السياسات الفنية في النظام الدولي لتحقيق التنوع البيولوجي والتنمية دون أن يكون هناك تعارض بينهما. وينص القرار المذكور بشأن الانسجام مع الطبيعة على أن يشرع في إدراج هذا الموضوع في جدول أعمال الجمعية العامة، في إطار البند المعنون ”التنمية المستدامة“. وينطبق الشيء نفسه على تغير المناخ، الذي هو أيضا أحد مجالات عمل الأمم المتحدة ودواعي انشغالها. وقد اعتمدت اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ عام 1992 وألحق بها بروتوكول كيوتو عام 1997 للحد من انبعاثات الكربون، المسؤولة في المقام الأول عن تغير مناخ الأرض. ووفقا للاتفاقية الإطارية، عقدت مؤتمرات للأطراف فيها، وهي لقاءات قد تكون بمثابة مؤتمرات قمة حقيقية. والواقع أنها، أكثر تحديدا، مؤتمرات أو اجتماعات قمة لمكافحة تغير المناخ بطبيعة الحال([4]).
14 -  لكن هناك فرقا كبيرا بين الجانبين النظري والتنفيذي لسياسات الأمم المتحدة بشأن التنوع البيولوجي ومكافحة تغير المناخ. فلا الاتفاقية الإطارية بشأن تغير المناخ ولا بروتوكول كيوتو يشيران إلى إمكانية مساهمة الشعوب الأصلية في هذه الجهود أو يعترفان حتى بوجودها. وتعيد الاتفاقية الـتأكيد بقوة على مبدأ مسؤولية الدول وبالتالي سلطتها بصيغة تفيد حصرهما فيها على ما يبدو، لكنها متناقضة بفعل مشاركة وكالات الأمم المتحدة وبرامجها في هذه الجهود([5]): ”وإذ تؤكد من جديد مبدأ سيادة الدول في التعاون الدولي لتناول تغير المناخ“. هذه المبادئ تقوم إذن على استبعاد الشعوب الأصلية. وما التناقض الحاد بين اتفاقية التنوع البيولوجي والاتفاقية الإطارية بشأن تغير المناخ إلا تعبير عن الحالة الراهنة حيث لا يعترف عمليا بوجود الشعوب الأصلية على قدم المساواة مع غيرها، مما يشكل تناقضا بين الجانبين النظري والعملي.
15 -  ولدى منظمات الشعوب الأصلية حاليا خبرة عمل دولية اكتسبتها من مشاركتها في مختلف محافل الأمم المتحدة منذ الثمانينات. وهي تسعى دوما لتكون حاضرة في جميع المنتديات التي تدرس فيها القضايا وتتخذ فيها القرارات التي تمسها، كما هو الحال بطبيعة الحال في المؤتمرات المعنية بتغير المناخ، التي لا تستطيع أن تحضرها بأدنى صفة رسمية حتى الآن، وينطبق ذلك أيضا على مؤتمرات القمة المعنية بالتنوع البيولوجي([6]). ومما يزيد الطين بلة أن الشعوب الأصلية لا تتأثر سلبا بتغير المناخ الذي يتسبب فيه الآخرون فحسب، وإنما ببعض السياسات المتخذة دوليا لمواجهته دون موافقتها أو مشاركتها. لكن الأمور بدأت في التحسن شيئا ما منذ 13 أيلول/سبتمبر 2007، تاريخ إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية.


    ([1]) انظر http://www.cbd.int/convention/convention.shtml، الموقع الرسمي للاتفاقية ولتنفيذها.
    ([2]) انظر http://www.cbd.int/convention/cops.shtml: مؤتمر الأطراف الرابع (1998)، المقررات. المقرر رابعا/9، تطبيق المادة 8 (ي) والأحكام ذات الصلة.
    ([3]) http://www.un.org/esa/dsd/agenda21_spanish، طبعة موقع إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في الأمم المتحدة (شعبة التنمية المستدامة).
    ([4]) انظر البوابة الإلكترونية المتعلقة بأعمال منظومة الأمم المتحدة في مجال تغير المناخ: http://www0.un.org/spanish/climatechange/newsarchive/year2009/group4.shtml.
    ([5]) انظر موقع منظومة الأمم المتحدة الشبكي: http://unfccc.int/resource/docs/convkp/convsp.pdf؛ وبروتوكول كيوتو: http://unfccc.int/resource/docs/convkp/kpspan.pdf.
    ([6]) انظر المقترح المقدم من منتدى الشعوب الأصلية في المؤتمر الخامس عشر للأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، كوبنهاغن، في الموقع الشبكي ”Madre Tierra: Armonía con la Naturaleza“ على العنوان التالي: http://derechosmadretierra.org/2009/12/14/cumbre-de-copenhague-foro-de-pueblos-indigenas-presenta-propuesta-en-cop15/#more-535.

Post a Comment

أحدث أقدم