الارتداد الخارجي ودوره في تشكيل الزمن الروائي .
     يترجم بعض الباحثين مصطلح الارتداد تحت اسم (الاسترجاع) وهو ينقل عن كتاب (خطاب الحكاية) لـ (جيرار جينيت) فيعرفه على الهيئة الآتية (وندل بمصطلح استرجاع على كل ذكر لاحق لحدث سابق للنقطة التي نحن فيها من القصة)([i])، بينما لا يخرج من نقل بدوره عن (جينيت) عن التعريف السابق سوى باستبدال لفظة (استرجاع) بـ (ارتداد) ، فيعرفه بأنه (عملية سردية تتمثل في إيراد حدث سابق للنقطة الزمنية التي بلغها السرد)([ii])، ولا يخرج  الدكتور حسن بحراوي عن التعريف السابق سوى بدمج التعريف مع الوظائف التي يؤديها في الرواية ، فيرى أن كل عودة الى الماضي من النقطة التي وصلت اليها القصة تعد استذكاراً (ارتداداً) وقد وظفت هذه التقنية في الرواية لبواعث جمالية وفنية ، ومن الفنية ملء الفجوات التي خلفها السرد ، أما بإعطاء معلومات حول سوابق لشخصية دخلت عالم القصة ، أو اطلاعنا على شخصية غابت عن القصة ثم عادت في وقت ما([iii]).
      وتفصل الدكتورة سيزا قاسم في أنواع الارتدادات وتجعلها ثلاثة اعتماداً على (جينيت) ، أولها : الخارجي الذي يعود الى ما قبل بداية الرواية ، وثانيها : الداخلي الذي يعود الى ماضٍ لاحقٍ لبداية الرواية ، وثالثها : المزجي الذي يجمع بين الاثنين([iv])، ونلاحظ أهمية الذاكرة في صنع شخصيات القصة ، وما الارتداد إلا لون من الذاكرة المستعادة (فالذاكرة شرط ضروري لتراكم الخبرة وتطورها وتعميقها ، وتعد الحكايات أداة مثلى لشيوعها وانتقالها عبر الثقافات ، لذلك لا يمكن للسرد أن يوجد خارجها)([v]) .
1 ـ الارتداد الخارجي ودوره في تشكيل زمن الرواية .
    وفي هذا الموضع من البحث سنتطرق الى الارتداد الخارجي الذي يعرفه (جينيت) بأنه (ذلك الاسترجاع الذي تظل سعته كلها خارج سعة الحكاية الاولى)([vi])، وهو يعني بالسعة طول مدة الارتداد ، وبالحكاية الاولى الحكاية الاساسية المبنية عليها الرواية ، وهذه الحكاية ــ الثانية ــ ترفد الحكاية الأولى بين حين وآخر بأحداث جديدة تنتمي الى الماضي المقترن بنوع من العلاقة مع الحكاية الأولى وفي هذا الصدد يقول (جينيت) : (توشك في أي لحظة أن تتداخل مع الحكاية الأولى لأن وظيفتها الوحيدة هي إكمال الحكاية الأولى عن طريق تنوير القارئ بخصوص هذه السابقة أو تلك)([vii])، أما الوظيفة التي تقدمها الارتدادات الخارجية فهي :
آ ـ تورد معلومات عن أي عنصر من عناصر الحكاية سواء أتعلقت بالشخصية أو الإطار أو العقدة .
ب ـ سرد الثغرات التي حصلت في السرد القصصي([viii]).
     لا يخفى ما للماضي من تأثير كبير في صناعة أحداث الرواية ، فالماضي والذاكرة يشكلان منجماً زمنياً لا ينضب يستعين به الروائي في جميع محطاته لإسعاف حكايته الأصلية المتجهة بخط أفقي الى المستقبل ، بكل المستلزمات الضرورية لجعل أحداثها تبدو منطقية ومقبولة وغير مفككة الأجزاء ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى تمنح العودة الى الماضي زيادةً في التأكيد على لحظات مؤثرة من خلال الجذور والامتدادات التي تملكها في ذلك الماضي ، وهنا نفهم الراهن والمستقبل في ضوء ما كشف عنه الماضي (الحكائي) ، فيزداد التوتر والتأثير ، ولا يتخذ الارتداد الخارجي شكلا واحداً في حضوره الى الراهن الروائي من ناحية الأداء الفني للروائي ، فقد يكون ارتداداً عادياً أوجبه تداعي الأفكار ، أو قد يأتي على شكل حكاية ثانوية مكثفة ، أو على شكل حوار بين شخصيات الرواية .
    ويمكننا أن نلاحظ نوعين من الارتدادات الخارجية في رواية (فرانكشتاين في بغداد) يمكن أن نطلق على النوع الأول منها (الارتداد الخارجي المفرد) ، الذي يشير الى واحدة من معلومات الرواية من دون تعقيد ، ونراه لا يستقصي التفاصيل أو يتشعب بالارتباطات مع حكايات ومعلومات أخرى ، وهكذا نجد هذا اللون يقدم معلومات عن أشخاص تكشف عن مراحل معينة من تاريخهم الشخصي ، أسهمت في بلورة الهيئة التي ظهروا على وفقها في زمن السرد ، ومن هؤلاء شخصية العجوز الأثورية (أيليشوا) حيث نجد سبعة ارتدادات خارجية مفردة تتعلق بها ، يعود أقدمها الى مرحلة الثمانينيات حيث حادثة موت ابنها (دانيال) في الحرب العراقية الإيرانية (حدثته عن صراعها مع "تيداروس" زوجها الذي قبل أن يدفن تابوتاً فارغا لابنهما دانيال ذهب تيداروس الموظف الصغير في مصلحة نقل الركاب ، الى مقبرة كنيسة المشرق الكائنة في شرقي العاصمة ، مع بعض الأقارب والمعارف والأصدقاء ، ودفنوا تابوتاً فارغاً فيه بعض ملابس دانيال وقطع ـ كذا ـ من كيتاره المحطم وصلوا عليه ثم وضعوا شاهدة بالسريانية والعربية : أوه قوره دنيه "هنا يرقد دانيال" ثم عادوا)([ix])، ونجد ان الارتداد السابق يعطي معلومات عن اسم زوجها وعمله الى جانب ذكر حادثة موت الابن ، أما الثاني فيتعلق بوفاة زوجها([x])،ويحكي الثالث قصة زواج ابنتها (ماتيلدا)([xi])، أما الرابع فيأتي على لسان حفيدها (دانيال) يحاول فيه أن يستعيد ذكريات طفولته في بيتها (وشعر أثناء حديثه معها بتأثير المكان يتغلغل الى نفسه ببطء وثبات ، داهمه حزن غامض وهو يرفع بصره الى الصور الرمادية المعلقة على الجدران شعر أنه يعرف هذا البيت واستعاد جزئياً بعض ذكرياته الشاحبة أثناء ما كان يأتي مع أمه لزيارة الجدة والجد قبل أكثر من عقد مضى ، وتيقن أن بقاءه مع جدته لوقت أكثر سينشط ذكريات أخرى كانت تبدو فيما سبق ، وكأنها غير موجودة أو مجرد أحلام وكوابيس غير واضحة)([xii])، أما الارتداد الخامس فيؤرخ لسفر ابنتيها (ماتيلدا وهيلدا) الى استراليا في مرحلة التسعينيات تحت وطأة العقوبات الاقتصادية الدولية على البلد([xiii])، وجاء الارتداد السادس لِلَحم ثغرات زمنية للانقطاع بين العجوز وابنتيها عن طريق الاتصالات الهاتفية في مدد متباعدة([xiv])، أما الارتداد الأخير فلم يحدد زمنه ونراه يرتبط بالحياة الدينية للعائلة ، ويحكي تفسيراً لصور القديسين الموجودة على الحائط وهي غير معروفة التاريخ([xv])، ومن خلال ملاحظة موضوعات الارتدادات السابقة نجد أنها تحاول أن تحدد وبشكل دقيق أبعاد الشخصية وتسترسل في تاريخها الشخصي عبر معلومات منتقاة ، وتشرح حال هذه العائلة الوديعة التي تمتص ضربات المحيط بصبر لتفسر لا حدود له ، وبالتالي تبين سبب الانكفاء والوحدة ،  الثلمة النفسية الكبرى التي تجتاح (أيليشوا) ، حيث اتخذت حياتها نمطاً شبه منقطع عن العالم المحيط ، ولم يعد إيقاع زمن الناس يعنيها من قريب أو بعيد ، ومن الناحية الفنية نجد أن هذه الارتدادات لم تتخم بما لا طائل تحته في كشف الشخصية .
     وإذا انتقلنا الى شخصية أخرى من شخصيات الرواية هي (أبو أنمار) الذي تقدمه الرواية على أنه صاحب فندق (العروبة) الخالي من الزبائن بسبب الوضع الأمني المتردي ، فسنجد أن الارتدادات تقارن بين صور الماضي والحاضر ، الذي سينتهي باقتلاعه هو وتاريخه وفندقه من ذاكرة المدينة ، وما تحول اسم الفندق من (العروبة) الى (الرسول الأعظم)([xvi]) إلا إشارة لها معناها ، فهي تؤذن باستبدال الهوية القومية بهوية دينية ، وتعلن عن بداية صراع من نوع جديد يموت فيه زمن المد القومي ويبدأ زمن التطرف الأصولي ، وفيما يتعلق بشخصيته نجد أن هناك ثلاثة ارتدادات حاولت أن تستجلي أبعاد شخصيته ، أولها يعود الى زمن لا تعرف مدته تقريباً ولكن إشارته تبدأ من تركه لمدينته الجنوبية الصغيرة (قلعة سكر) ليعمل في فندق سرعان ما يحصل عليه بطرق ملتوية ، ويمضي الزمن ليصل الى الراهن ليؤخذ منه الفندق بتلك الطرق نفسها ، فهناك من يساومه على الفندق ويحاول انتزاعه منه بثمن بخس([xvii])، وكأنها إشارة الى قانون صراع الحياة الأبدي غير المتكافئ وغير الشريف أحياناً .
     أما الارتداد الخارجي الثاني فجاء ليقارن بين صورتين تنتميان لزمنين مختلفين ، هما الزمن الراهن المهدد بالاقتلاع والزوال ، وبين الزمن الماضي المشرق الخاص بالشخصية (مال بجسده السمين الى الاسفل ليخرج من الدرج العريض في ميزه الخشبي ألبوم صور ضخم ، ظل يقلبه ويعرض الصور أمام حازم ، صور بالأبيض و الأسود لأبي أنمار بالبدلة وربطة العنق وهو يبدو نحيفاً وصغيراً بالعمر ، يقف بجوار فريق كرة السلة من محافظة ميسان ، أو جالساً بجوار فتيات بشعر قصير لفرقة إنشاد كنسية قادمة من الموصل ، صور مشاهير وشخصيات كانت مشهورة ولكن حازم ـ كذا ـ لا يعرفها الآن ويبدو أن أحداً لا يعرفها سوى أبي أنمار)([xviii])، أما الارتداد الثالث فجاء ليكشف عن سمة من سماته الشخصية ويكشف خصلة من حياته الداخلية فيظهرها غير متدينة ، هو يأتي على شكل إشاعة تدور حول (أبي أنمار) مع الأرمنية (فيرونيكا) وابنها (أندرو) حيث تتردد قالة السوء عنه بأنه ابن غير شرعي لـ (أبي أنمار)([xix])، ومثلما نلاحظ ان الارتدادين الأول والثاني يظهران إدراك الشخصية لتبدل الزمن وقيمه بين الماضي والحاضر ، فأن الثالث يتولى إبراز إحدى سماته الشخصية ومعاييره القيمية الخاصة  .
     وعلى الشاكلة نفسها ترد مجموعة من هذا اللون من الارتدادات تضيء كل منها معلومة عن شخصية رئيسة أو ثانوية تتعلق بالتاريخ الشخصي لتلك الشخصيات ، أو لتفسير وزيادة إيضاح لأبعادها ، مثل الارتداد بحياة (أبي زيدون) وتاريخه مع حزب البعث حيث يقوم بالقبض على شباب محلة البتاويين وإرسالهم الى جبهات القتال ودعوات أمهاتهم عليه كـ (أم سليم البيضة وأم دانيال)([xx])، وارتدادت أخرى تتعلق بـ (فرج الدلال)([xxi]) و(العميد سرور مجيد محمد)([xxii])، و(نوال الوزير)([xxiii]) ، و(محمود السوادي)([xxiv]).
       أما إذا انتقلنا الى النوع الثاني من الارتدادات الخارجية وهو (الارتدادات المعقدة أو غير المفردة) وهو يجمع بين أجزائه تفاصيل كثيرة عن الزمن المحدد الذي يعالج أحداثه ، وهنا يبدو أنه أكثر تعقيداً وتشابكاً وثراءً بالمعلومات ، وله أمثلة كثيرة في هذه الرواية استغرقت مساحة مهمة منها ، نجد أن ثلاثة منها ارتبطت بإحدى شخصيات الرواية الرئيسة وهو (محمود السوادي) ، حيث ارتد الأول الى ستة أشهر حيث اشترت الشخصية (آلة التسجيل) ، لكن الزمن سرعان ما امتد الى عشرة أعوام ، ليصل الى والده (رياض السوادي) الذي دَوَنَ مذكراته في دفاتر مدرسية صغيرة ، وفيها أخذ يبوح بمعلومات خاصة عن تاريخ العائلة الشخصي ، وعن النساء اللواتي عشقهن ، وعن ديانته التي انتقل فيها من الصابئية الى الإسلام ، وفي هذا الارتداد تبرز (ذات) جديدة لدى الأب ، وهي تختلف عن الأخرى المتكيفة مع محيطها الاجتماعي والموسومة بالمهابة ، وهذا ما أحدث شرخاً نفسياً للعائلة دفعها أن تلقم تلك الدفاترَ النارَ (يدون كل شيء تقريباً على هذه المسجلة نوع باناسونيك التي اشتراها من محل في الباب الشرقي قبل نصف عام تقريباً ... هنا تبدو بالنسبة له وكأنها مرحلة متقدمة من التطور الداروني للدفاتر المدرسية التي كان والده رياض السوادي يدون عليها يومياته ، فغدت أكثر من سبعة وعشرين دفتراً مدرسياً من فئة المئة صفحة عشية وفاته ، اطلع محمود على بضعة صفحات فيها ..... كان الأب يدون كل شيء ، يدون الحقيقة العارية بقلمه الحبر الأسود الأنيق المشابه لما في كراسة تعليم خط الرقعة ، هناك كلام عن الممرات التي مارس فيها الاب العادة السرية خلال زواجه ، وعن النساء اللائي حلم بمضاجعتهن ، بعضهن نساء كبيرات بالسن من الجيران في المنطقة ، كان كلامه داخل كراساته الوثائقية لا يشابه إطلاقاً هيأته الخارجية والصورة المعروفة عنه في حي الجِدَيْدة داخل العمارة ، أنه شخص محترم جداً وذو مهابة ، ولكنها ربما ليست ذاته التي يحبها كثيراً ، أنها ذاتٌ فرضت عليه واستطاع التكيف معها في نهاية المطاف من خلال الاتكاء على سحر الاعترافات اليومية)([xxv])، أما الارتداد الثاني الذي يقوم به (محمود السوادي) ، فعلاوةً عن كشفه جوانب لسبب انتقاله من (العمارة) الى العاصمة (بغداد) ، فأنه يوجز المشهد المسيطر في مدينة (العمارة) حيث استفحال نفوذ القوى العشائرية غبَّ انهيار النظام الدكتاتوري ، إذ سرعان ما استثمر النفوذ العشائري والطائفي الفراغ الحاصل ، ويأخذ بالالتفاف على التغيرات الايجابية التي كان المجتمع يأملها ، ليجد المجتمع نفسه في قبضة قوية أخرى تنتهج العنف سبيلاً للسيطرة والهيمنة ، وكأن هذه إشارة لتبرير الخراب الشامل الذي طال (بغداد) والمدن العراقية الأخرى ، نتيجة لغياب الرؤية الصحية في إقامة المجتمع الذي يحلم به المثقف (محمود السوادي)([xxvi])، وهذا يوضح ان الارتداد لم يقتصر على مهمته الأحادية في استحضار معلومة تفسر سبب انتقال الصحفي من مدينته ، بل ضم إليها أيضاً حكاية أخرى ذات إيحاءات ودلالات هي بمثابة تحليل للواقع القائم .
     ولا يبتعد الارتداد الثالث عن سابقيه ، إذ يذكر المعلومة التي كانت سبباً مباشراً في تهديد حياته ، وهي مقالة نشرها في جريدة (صدى الأهوار) إلا أنه لم يتوقف عند هذه المعلومة فحسب ، بل اندفع يشرح الخطوط العامة لتلك المقالة وهو يتحدث عن (العدالات) الثلاث ، عدالة السماء ، وعدالة القانون ، وعدالة الشارع ، وهذا الامر يجعل الارتداد غنياً بمعطياته المختلفة([xxvii]) . 
    وتتوالى مجموعة من الارتدادات الخارجية غير المفردة وتتعلق هذه المرة بالعجوز الأرمنية (إيليشوا) ، وهذه المرة تمزج الارتدادات بين أكثر من فكرة ، أما طريقة أداءها فجاءت عبر (الحكاية) على لسان (السارد العليم) ، يستعرض فيه تاريخ بيت (أيليشوا) المبني على وفق الطرز اليهودية في العقود السابقة ، وهذه الإشارة تلمح الى التعدد الثقافي والعرقي الذي أسهم في بناء بغداد ، كما يمتزج بفكرة أخرى هي شرح الطبيعة النفسية لمجتمع الراهن الروائي التي طالها التغيير ، فاتجهت لإشباع النزوات ، وتعدت على حقوق الآخرين ، الى جانب ملاحظة فنية هامة في هذا الموضع ، وهي اعتماد أسلوب (الوصف) ، لتوضيح طبيعة المعمار ومن المعلوم أن لحظة الوصف يتوقف فيها الزمن ويتيح المجال للعين في التهام الجمال([xxviii]) ، وهناك ارتداد خارجي آخر جاء بأسلوب (الحكاية) ، يتناول حياة ابنها وسوقه الى الخدمة العسكرية الالزامية ، من قبل الرفيق الحزبي (أبي زيدون) ، ولا يقف الارتداد عند هذا الحد ، بل يمتد الى حادثة أخرى هي موت الابن واختفاء جثته ويأخذ بشرح عملية دفنه ... الخ([xxix]).
      وعلى الشاكلة نفسها يمكن أن نجد كثيراً من الارتدادات التي تمزج بين أكثر من فكرة وتتداخل فيها التواريخ وتضيء معلومات أخرى عن الشخصية كالمتعلقة بـ (هادي العتاك)([xxx])، حيث جمعت بين التاريخ الشخصي وبين الانفعالات والسمات النفسية له ، و(نوال الوزير)([xxxi])، حيث شمل الارتداد التاريخ الشخصي الى جانب العلاقات الاجتماعية والسمات النفسية .
2 ـ الارتداد الداخلي ودوره في تشكيل زمن الرواية .
    يمارس الارتداد الداخلي دوراً مهماً في رتق فجوات الحكاية وتوسيع دائرة الضوء على أحداث لم ترو سابقاً في القصة ، فتجري عملية اعادة سردها لتصبح القصة أكثر أقناعاً وتماسكاً ، ويقول (جينيت) في تعريفه أنه (المدة اللاحقة بعد بداية الرواية)([xxxii])، أما وظيفته عنده فهي : إضاءة ماضٍ لشخصيات دخلت الى خط السرد حديثاً وللتذكير بشخصية غابت عن الانظار في السرد الروائي لبعض الوقت فيجري التذكير بماضيها عن عهد قريب([xxxiii])، ويجعل بعض الباحثين أهميتها كامنة في إبراز بعض عناصر الحكاية حيث يقول : (للارتدادات الداخلية وظيفة جد هامة رغم ضعف حجمها النصي وكونها مقاطع نصية لا تساعد على تقدم سير الأحداث ، إذ هي تبرز القيمة الدلالية الخاصة لبعض عناصر الحكاية)([xxxiv]) .
    وقد لاحظنا في رواية (فرانكشتاين في بغداد) نوعيين مما يمكن وصفه بالارتداد الداخلي ، أولهما : يشير الى أحداث لم ترو سابقاً وتعود الى زمن القص الروائي ، وثانيهما : إعادة سرد لإحداث تم إجمالها فيعاد سردها مرة أخرى ، أما على سبيل التوسعة والإفاضة وإضافة تفاصيل أخرى ، أو لعرضها من زاوية نظر بعض الشخصيات ، وبالتالي تكون ملونة بعواطف وقيم الشخصية التي قامت بروايتها ضمن ما يعرف بـ (البيليفونية) التي أشار إليها (باختين) ، ورأى أنها (ليست تعدداً في ألسنة الرواية أو تعدداً للرواة داخل النص الواحد ، وإنما هي عرض لوجهات نظر متنوعة)([xxxv]) .
    واذا حاولنا تلمس النوع الأول في الرواية فسنجد أمثلة عديدة له ، منها ارتداد داخلي تستغرق مدته نصف نهار ، غايته الاساسية كشف بعض السمات النفسية الداخلي لـ (محمود السوادي) في علاقته بمتع الحياة ومنها المرأة ، وتكشف أيضاً طبيعة الالتزام الديني لديه ، وهو في الوقت نفسه يظهر طبيعة الايقاع الزمني للحياة المختلفة بين مدينته الجنوبية المُحافظِة (العمارة) و العاصمة (بغداد) (عصر يوم أمس أصر حازم عبود على الاحتفال رغم عدم وجود سبب لذلك ، وسحب صديقه الكئيب من ياقته الى أحد البيوت في زقاق خمسة داخل البتاويين ، بدا محمود قلقاً ولكنه استسلم لمبادرة صديقه ، شربا عدة علب من البيرة المثلجة ، وجلست بجوارهما فتاتان بيضاوان ترتديان ملابس صيفية خفيفة رغم الجو البارد في الخارج ، ظلا يكرعان البيرة على مدى ساعتين ، وكان قلب محمود يضرب بشدة وكاد ينخلع من مكانه كلما احتكت به الفتاة الجالسة بجواره أثناء رفعها لكأسها أو خذ شيء من صحن الكرزات لم يجلس هذه الجلسة سابقاً ، ولم يقترب من امرأة بهذه المسافة ، وظل حازم يغريه بالشرب أكثر وأكثر)([xxxvi])، ولا تأتي المعلومات التي تقدمها الارتدادات الداخلية الأخرى بفائدة تذكر من ناحية إضاءة جوانب للشخصيات من ناحية الفكر والسلوك والقيم ، فأحدها يؤرخ لبداية الحياة العاطفية لـ (محمود السوادي) مع (نوال الوزير)([xxxvii])، وآخر يتناول مدة اعتقاله ، وغايته تفسيرية هي إظهار براءته([xxxviii])، وهو ما يجري لحوادث عديدة في الرواية .
       غير أننا نشير في هذا الموضع الى ارتدادين داخليين مهمين أحدهما ، يرد على هيئة ملخص حكاية تجري بين (هادي العتاك) و(رئيس الجمهورية) وتظهر الطبيعة الفكاهية المرحة لـ (هادي العتاك) وطبيعته المراوغة والكاذبة ، وفي الوقت نفسه تسخر بصورة غير مباشرة من السلطة السياسية : (يتكئ هادي على ظهر التخت الطويل ويسرد حكاية جديدة عن لقائه مع رئيس الجمهورية وسط زقاق في الجادرية ليلة أمس ، كان الرئيس في سيارة مارسيدس سوداء مصفحة حين مر بجوار هادي ، توقفت السيارة ونزل السائق ببدلته الزرقاء الداكنة وهرول الى الجهة الثانية ليفتح الباب للرئيس السمين بشكل مفرط ، أنزل الرئيس قدمه اليمنى على الرصيف وبقي جسده محشوراً في المقعد الخلفي للسيارة وصاح على هادي الذي تجاهل وقوف السيارة وظل مستمراً في السير مع كيس جنفاص يحتوي "قواطي" مشروبات غازية وكحولية ... / ــ هادي هادي .. / ــ نعم سيادة الرئيس .. / ــ ماتجوز من سوالفك .. بطل تحكي علينه .. ما بينا حيل الناس تسوي ثورة ضدنا / ــ شسويلك سيادة الرئيس .. اشتغلوا عدل واني ما احكي عليكم / ـــ هسه ما تجي وياي؟ .. تعال خلي نتفاهم ، خوش مسويلنه عشه بالمنطقة الخضراء / ــ لا سيادة الرئيس أني مو جوعان .. بس إذا أكو عركَك أجي ، انته مو تشرب عركَك سيادة الرئيس ؟ / ــ عيب اني اشرب ماي مقطر ، انته ما تجوز من سوالفك هادي  ... أغلق الرئيس وهو يضحك باب السيارة واندفعت بسرعة على أسفلت الزقاق ثم اختفت)([xxxix]).
      أما الارتداد الداخلي المتميز الآخر فيتعرض لعملية التمويه المتعمد والمقصود الذي يمارسه الراوي على شخصية (الشسمه) ، فبعد أن أوحى بأن الروح التي تلبسته هي روح الحارس الشاب (حسيب محمد جعفر)([xl])، عاد مرة أخرى عن طريق ارتداد داخلي ليظهر أن روح (دانيال) وهيأته هما من تجسدتا في شخصية (الشسمه) في ارتداد طويل امتد على مسافة سبع صفحات([xli])، وكأن الراوي يريد أن يلمح الى الخيط الجامع بين شخصية (حسيب) التي قضت في إحدى التفجيرات الإرهابية وشخصية (دانيال) التي راحت ضحية حروب النظام الدكتاتوري ، أي أن عملية الإيهام المقصودة كان الهدف منها إدانة العنف غير المبرر للجانبين ، وأن انتقام (الشسمه) موجه لهما معاً فعبر الشخصيتين تم اختزال سنوات العنف والموت.
      وإذا انتقلنا الى ما تم العودة اليه من السرد داخل زمن القصة حيث تجري عملية توسيع إجماله ، أو كما يسمى بـ (السرد المكرر) بحسب (جينيت) الذي يعرفه : بأنه يروى ما حدث لمرة واحدة عدة مرات بتغيير الأسلوب ، وأحياناً بتغيير وجهات النظر واستبدال الراوي في كل مرة([xlii])، ونلاحظ أمثلة كثيرة وردت من هذا النوع في الرواية منها حادثة انفجار فندق (السدير نفوتيل) ، إذ جرى سردها لأول مرة وركز فيها الراوي على المشاهد العامة المصاحبة للانفجار (بعد أن عبر بمسافة عشرين متراً عن البوابة شاهد هادي سيارة أزبال مسرعة تخطف بجواره وتكاد تصدمه كانت متوجهة نحو بوابة الفندق ، لم تمضِ سوى لحظات حتى انفجرت وطار هادي بكيسه وعشائه في الهواء ، تشقلب وتطوح مع الغبار والأتربة وعصف الانفجار وارتطم بقوة على أسفلت الشارع على مسافة بعيدة عن مكان الانفجار ...)([xliii])، وبعد حوالي عشرين صفحة يعاد سرد الحادثة نفسها ، على لسان (الراوي العليم) ، الا انه في هذه المرة يقترب من استبطان دواخل مجموعة من الصحفيين الذين شاهدوا الحادث ، حيث تضاف عناصر أخرى الى المعلومات السردية ، فيذكر هذه المرة نوع السيارة ، ولونها ، وطريقة دخولها الى الفندق ، وعملية التصدي لها من قبل رجال الامن ، الى جانب الإلماح الى عنصر آخر نستطيع ان نسميه تدخل (القضاء والقدر) ، فلو لم يتأخر أحد الصحفيين للحظات في حديثه مع أصحابه ، لكان في عداد الموتى ، وهنا نجد أن جميع تلك العناصر قد أضيفت أثناء إعادة السرد (ظلوا ينظرون باتجاه اليسار حيث مقدم سيارات الكيا، لم يغادر فريد شواف الى الجهة الثانية ، فهو مازال مستمراً بالثرثرة حول كتابه المفترض ، ولو عبر في ذلك الوقت الى الجهة المقابلة من الشارع لواجه موتاً مؤكداً فمن هناك استدارت كابسة ازبال برتقالية اللون محملة بعشرات الكيلوغرامات من الديناميت لترتطم ببوابة فندق السدير الحديدية مخلفة انفجاراً مهولاً لم يشهد له هؤلاء الصحفيون الأربعة مثيلاً من قبل ، انتبه فريد شواف سريعاً للسناريو البديل والواقعي جداً فيما لو انه ترك اصدقاءه وعبر سريعاً الى الجهة الثانية من الشارع ، فهو يركب من ذلك المكان تحديداً)([xliv])، ومثل هذا السرد يتكرر في أحداث الرواية الاخرى ، كانفجار سيارة أخرى سُمي بحادث انفجار ساحة الطيران([xlv])، حيث يعاد سرده ثانية ليشرح طريقة الانفجار والمشهد البانورامي المفزع الذي خلفه([xlvi])، وحادث مقتل الشحاذين المجمل([xlvii])، الذي يعاد تفصيله وإظهار السبب في مقتلهم وازالة الابهام والدهشة والغرابة من ذهن المتلقي([xlviii]).
     ومن بين مظاهر هذا اللون من السرد البارزة ، تأتي حادثة الاعتقال العشوائي لمجموعة من الناس ، فعند سردها للمرة الأولى لم يتبين سبب واضح لهذا السلوك عدا عجز المؤسسة الأمنية (عند منتصف النهار أتت عملية البحث والتطويق شاهد محمود بعينيه بضعة شباب ورجال متوسطي العمر وهم مقيدو الأيدي الى الخلف يساقون الى السيارات العسكرية ، انتبه محمود بسرعة الى ان الجامع الأساس بينهم انهم كلهم من قبيحي المنظر ، كان بعضهم بعيوب خلقية ولادية ، والبعض الآخر مشوه جراء حرائق التفجيرات الإرهابية وأخرين كأنهم مجانين رسميين ، فبدت وجوههم مسترخية ورائقة لا تبدي أي خوف أو قلق)([xlix])،  وبعد حوالي سبعين صفحة يعاد سرد هذه الحادثة مرة أخرى ، ليعيد المشهد ويضيف اليه معلومة تبين سبب الاعتقال ، وهو كما يبدو سبب ساذج عن طريقه يمكن أن توجه إدانة للمؤسسة الأمنية (اراد الضابط الغاضب ذو الضمادة الطبية حول الرقبة ان يطبق الاختبار الاخير على هادي العتاك ، وهو ذات الاختبار الذي استعمل مع القبحاء الأحد عشر الذين اعتقلوا من البتاويين في ذلك النهار ، كان هادي قبيح الشكل أيضاً بنظرهم)([l]).
     وبذا ظهرت عملية الارتداد الداخلي في الرواية متعددة الوظائف والغايات مما يظهر لنا روائياً قادراً على توظيف أدواته بصورة جيدة .


 ([i]) خطاب الحكاية ، 51 .
 ([ii]) مدخل الى نظرية القصة ، 76 .
 ([iii]) ينظر : بنية الشكل الروائي ، 121 ـ 122.
 ([iv]) ينظر : بناء الرواية دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ ، 40 ـ 42 .
 ([v]) السرد الروائي وتجربة المعنى ، سعيد بنكراد ، المركز الثقافي العربي ، بيروت ، ط1 ، 2008م ، 101 .
 ([vi]) ينظر : خطاب الحكاية ، 60 .
 ([vii]) خطاب الحكاية ، 61 .
 ([viii]) ينظر : مدخل الى نظرية القصة ، 78 ـ 79 .
 ([ix]) الرواية ، 72 .
 ([x]) ينظر : الرواية ، 72 .
 ([xi]) ينظر : الرواية ، 73 .
 ([xii]) الرواية ، 288 ـ 289 .
 ([xiii]) ينظر : الرواية ، 73 .
 ([xiv]) ينظر : الرواية ، 75 .
 ([xv]) ينظر : الرواية ، 22 .
 ([xvi]) ينظر : الرواية ، 222 .
 ([xvii]) ينظر : الرواية ، 223 .
 ([xviii]) الرواية ، 224 .
 ([xix]) ينظر : الرواية ، 118 .
 ([xx]) ينظر : الرواية ، 94 ـ 95 .
 ([xxi]) ينظر : الرواية ، 16 .
 ([xxii]) ينظر : الرواية ، 248 .
 ([xxiii]) ينظر : الرواية ، 277 .
 ([xxiv]) ينظر : الرواية ، 185 .
 ([xxv]) الرواية ، 132 ـــ 133.
 ([xxvi]) ينظر : الرواية ، 53 .
 ([xxvii]) ينظر : الرواية ، 189 ، 192 .
 ([xxviii]) ينظر : الرواية ، 20 ، 21 .
 ([xxix]) ينظر : الرواية ، 75 ــــ 76 ، 20 .
 ([xxx]) ينظر : الرواية ، 17 ، 30 ، 165.
 ([xxxi]) ينظر : الرواية ، 270 ، 271 ، 272.
 ([xxxii]) خطاب الحكاية ، 60 .
 ([xxxiii]) ينظر : م . ن ، 61 .
 ([xxxiv]) مدخل الى نظرية القصة ، 79 .
 ([xxxv]) صورة المثقف في الرواية العربية الجديدة ، دار رؤية ، القاهرة ، ط1 ، 2013م ، 77 .
 ([xxxvi]) الرواية ، 50 ـــ 51 .
 ([xxxvii]) ينظر : الرواية ، 274 .
 ([xxxviii]) ينظر : الرواية ، 237 .
 ([xxxix]) الرواية ، 206 ــــ 207 .
 ([xl]) ينظر : الرواية ، 48 .
 ([xli]) ينظر : الرواية ، 63 ـــ 69 .
 ([xlii]) ينظر : مدخل الى نظرية القصة ، 83 .
 ([xliii]) الرواية ، 39 ـــ 40 .
 ([xliv]) الرواية ، 60 .
 ([xlv]) ينظر : الرواية ، 11 .
 ([xlvi]) ينظر : الرواية ، 28 .
 ([xlvii]) الرواية ، 60 .
 ([xlviii]) ينظر : الرواية ، 144 .
 ([xlix]) الرواية ، 151.
 ([l]) الرواية ، 220 .

Post a Comment

Previous Post Next Post