المطابقة بين الضمير المثنى ومرجعه

     فإذا ورد ضمير غائب مثنى ، وجب أن يعود على مرجعٍ مثنىً مثله ، وهذا ما ورد في القرآن الكريم ، قال تعالى : فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ (البقرة:36) ، فالضميران ( هما ) من ( فأزلهما ) ، ومن ( فأخرجهما ) ، والألف من ( كانــا ) ، عائــدان على نبـــي الله آدم   وزوجه ، قال تعالى : وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ (البقرة:35) ، وقد تمت المطابقة بين الضمير المثنى ومرجعه .

     وقال تعالى : قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (هود:43) ، فالضمير ( هما ) من ( بينهما ) ، عائدٌ على نبي الله نوحٍ وابنه في قوله تعالى : وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (هود:42) ، وقد تمت المطابقة بين الضمير المثنى ومرجعه .

    وقال تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (فاطر:41) ، فالألف من ( تزولا ) و( زالتا ) ، والضمير ( هما ) من (أمسكهما) ، عائدان على السماوات والأرض المَذكورين ، وقد تمت المطابقة أيضاً ، وقد وردت مثل هذه المواطن في القرآن الكريم .

ما ظاهره المخالفة :

    وردت بعض المواطن في القرآن الكريم ظاهرها التخالف بين الضمير المثنى ومرجعه ، قال تعالى : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (الكهف:60-61) ، فقوله تعالى : ( نسيا ) عائدٌ على موسى   وفتاه ، ولا إشكال في هذا ، إلا أن الله تعالى يقول في الآيتين التاليتين : فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً    قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (الكهف:26-36) ، فنحنُ نلاحظُ أن فتى موسى قد نسب النسيان لنفسه فقط وذلك في قوله : نَسِيتُ الْحُوتَ و مَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ ، وفي ظاهر هذا تخالفٌ بين الآيات في نسبةِ النسيانِ ، وفيما عاد عليه الضميرُ المثنى .

     يقول الطبريُّ : " قال بعضُ أهل العربية : إن الحوت كان مع يوشع ، وهو الذي نسيه فأُضيف النسيان إليهما … وإنما جاز عندي أن يُقال : نسيا ؛ لأنهما كانا جميعاً تزوداه لسفرهما ، فكان حملُ أحدهما ذلك مضافاً إلى أنه حَملٌ منهما ، كما يُقالُ : خرج القومُ من موضع كذا ، وحملوا معهما من الزاد كذا، ، وإنما حمله أحدهم ، ولكنه لما كان ذلك عن رأيهم وأمرهم ، أُضيف إلى جميعهم ، فكذلك إذا نسيه حامله في موضع ، قيل : نسي القوم زادهم ، فأُضيف ذلك إلى الجميع بنسيان حامله ذلك ، فيجري الكلام على الجميع ، والفعلُ من واحدٍ ، فكذلك ذلك في قــوله : نَسِيَا حُوتَهُمَا؛ لأن الله عزَّ ذِكرهُ خاطب العـــــربَ بلغتها وما يتعارفونـــــه بينهم مـــن
الكلام " .

     وقال جماعةٌ من المفسرين : إنَّ الضمير عائد على نبي الله موسى  وفتاه ، يقول الزمخشريُّ : " أي نسيا تفقد أمره وما يكون منه ، مما جُعِلَ إمارةً على الظفر بالطلبة ، وقيل نسي يوشع أن يقدمه ، ونسي موسى أن يأمره فيه بشيءٍ " ، وهو ما رجحه أبو حيانٍ ، جاء في البحر المحيط : " والظاهر نسبة النسيان إلى موسى وفتاه " ، وقد ذكر وجهاً آخر ، وهو أن تكون الآية على حذف مضافٍ ، والتقدير " نسي أحدهما " .

     وقول الطبريَّ أولى ؛ لأنه جارٍ على ما تكلمت به العربُ ، والذي يؤيدُ نسبة النسيان ليوشع (فتى موسى ) وحده ، قوله تعالى : فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ 

      وقال تعالى :  مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ  يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (الرحمن:19-22) ، فقد عاد ضميرٌ مثنىً في قوله : ( منهما ) على (البحرين) ، ولا مشكل ، إلا أن اللؤلؤَ والمرجانَ يخرجان من الماء المالح دون العذب ، وفي ظاهر هذا تخالفٌ ، فقد عاد الضمير المثنى على مفرد .

     والقول في هذه الآية من وجوه :

أولاً :
      إنَّ هذا التركيب مستعملٌ في لسان العرب ، يقول الزمخشريُّ : " فإن قُلتَ : لِمَ قال : (منهما) ، وإنما يخرجان من الملح ؟ قُلتُ : لما التقيا وصارا كالشيءِ ، جاز أن يُقال : يخرجان منهما ، كما يُقالُ : يخرجان من البحر ، ولا يخرجان من جميع البحر ، ولكن من بعضه ، وتقولُ : خرجتُ من البلد ،و إنما خرجتَ من محلةٍ من مَحَاِلهِ ، بل من دارٍ واحدةٍ من دُورِهِ "  ، ويقول القرطبيُّ : " وقال ( منهما ) وإنما يخرجُ من الملح لا العذب ؛ لأنَّ العربَ تجمعُ الجنسين ، ثُمَّ تُخبرُ عن أحدهما ، كقوله تعالى :  يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ، وإنما الرسل من الإنس دون الجن ، قاله الكلبيُّ وغيره " .

ثانياً :
      إنَّ الآية الكريمة تكون على حذف مضاف ، يقول القرطبيُّ : " وقال أبو عليٍّ الفارسيِّ : هذا من باب حذف المضاف ، أي من أحدهما ، كقوله : عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ، أي من إحدى القريتين "  .
ثالثاً :
      إن المقصود بـ ( منهما ) ، ماءُ السماءِ والماءُ المالحِ ، فإذا التقيا بسقوط المطر ، خرج اللؤلؤ والمرجان ، فعن ابن عباسٍ : " هما بحرا السماء والأرض ، فإذا وقع ماءُ السماء في صدف البحر ، انعقد لؤلؤاً ، فصار خارجاً منهما " ، وجاء في البحر المحيط : " وقال ابن عباسٍ وعكرمة :تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر ؛ لأن الصدف وغيرها تفتحُ أفواهها للمطر ؛ فلذلك قال : منهما " ، وقد ذكر العلماءُ غير هذه الوجوه ، والأول أولى لجريانه على لسان العرب 


  المطابقة بين الضمير ومرجعه في الجمع :

أولاً – إذا كان الضمير جمعاً مذكراً :

     فإذا ورد الضمير الغائب وهو جمعٌ مذكرٌ ، وجب أن يعود على مرجعٍ مثله ، وهذا ما جاء عليه القرآن الكريم ، قال تعالى :  إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (آل عمران:10) ، فـ ( هم ) من ( أموالهم ) ومن ( أولادهم ) ، و( هم ) ضمائرعائدة على ( الذين كفروا ) ، والمطابقةُ حاصلةٌ بين الضمير ومرجعه جمعاً وتذكيراً .
     وقال تعالى :  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا  (التوبة:28) ، فـ ( الواو) من ( يقربوا ) ، و ( هم ) من ( عامهم ) ، عائدان على ( المشركين ) ، وقد تمت المطابقةُ بين الضمير ومرجعه جمعاً وتذكيراً .

    وقال تعالى : وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (هود:8) ، فـ ( هم ) من ( عنهم ) ومن ( يأتيهم ) ومن (عنهم) ومن ( بهم ) ، و( الواو ) من ( ليقولون ) ومن ( كانوا ) ومن ( يستهزئون) ، عائدان على ( الذين كفروا ) من قوله تعالى : وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (هود:7) ، وغير ذلك كثيرٌ  في القرآن الكريم . 


ما ظاهره عدم المطابقة 

     وردت بعضُ الآيات في القرآن الكريم ظاهرها المخالفة بين ضمير الغائب الجمع المذكر ومرجعه ، قال تعالى :  وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (الأنعام:61-62) ، فالضمير في ( ردوا ) جمعٌ مذكرٌ ، وقد عاد على مفردٍ مذكرٍ ، وهو قوله : (أحدكم ) أو الهاء في ( توفتهُ ) .

     والسببُ في ذلك ، أن ( أحدكم ) معناه الجمعُ ، ، يقولُ أبو السعود : " قوله تعالى : ثُمَّ رُدُّوا عطفٌ على تَوَفَّتْهُ والضمير للكل المدلول عليه بـ أَحَدَكُمُ وهو السر في مجيئه بطريق الالتفات تغليباً ، والإفراد أولاً والجمعُ آخراً ؛ لوقوعِ التوفي على الانفراد والرد على الاجتماع ، أي ثُمًّ رُدوا بعد البعث بالحشر إلى الله "  ، وقيل إن الضمير يعودُ على العباد ، وهو ما رجحه أبو حيانٍ  أو على الرسل  .

     وقال تعالى :  وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (الأنبياء:78) ، فقد عاد ضميرُ جمع المذكر ( هم ) على مثنىً ( داود وسليمان ) (عليهما السلامُ ) .

     والقولُ في هذه الآية من وجهين :

الأول :
إن الضمير راجعٌ إلى ( داودَ وسليمانَ ) ( عليهما السلامُ ) ، والجمعِ الذين حُكم بينهم ، قال الطبريُّ : " وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ يقولُ وكنا لحكم داود وسليمان والقوم الذين حكما بينهم  فيما أفسدت غنمُ أهلِ الغنمِ من حرثِ أهلِ الحرثِ " ، وقال الزمخشريُّ : "وجمع الضمير ؛ لأنــَّهُ أرادهما والمُتَحَاكِمِينَ إليهما "  .

الثاني :
        إنَّ الضمير لـ ( داود وسليمان ) ( عليهما السلامُ ) ، على رأي من يقول إن أقل الجمع اثنان ، قال الفراءُ : " وهو مثلُ قوله : فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَة يريد أخوين فما زاد ، فهذا كقوله : لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ  إذ جَمَعَ أثنين " ، وقد ذكر ابنُ الجوزيِّ هذا الرأيَ في تفسيره .

     والأول أولى ؛ فالحكمُ يستلزمُ الحاكمَ ، وقد ذكره الله تعالى وهما : ( داود وسليمان ) ( عليهما السلامُ ) ،ويستلزمُ أيضاً الخصومَ ، وأقلهما اثنان ، وبهذا لا مخالفة ، ولو قصد بـ ( داود وسليمان) ( عليهما السلامُ ) الجمعَ ، لقال : ( إذ يحكمون ) أيضاً ، كما قال : لِحُكْمِهِمْ .

     وقد قرأ " ابنُ مسعودٍ وابنُ عباسٍ وابنُ أبي عبلةَ "  : ( لحكمهما ) بضمير التثنية ، وعلى هذه القراءة تتم المطابقةُ .

     وقال تعالى :  وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (الأحزاب:36) ، فقد أعاد الضمير ( هم ) من ( لهم ) و ( أمرهم ) ، وهو جمعٌ مذكرٌ ، على ( مؤمن ) و( مؤمنة ) ، وظاهر ذلك المخالفة .
   
     والسبب في ذلك ؛ أن ( مؤمن ) و ( مؤمنةٌ ) وقعا في سياق النفي ، والنكرة إذا وقعت في سياق النفي عَمَّتْ ، فالآية محمولة على المعنى ، أي اُريد بها كلُّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ ، يقول الزمخشريُّ : " فإن قلتَ كان من الضمير أن يُوحد ، كما تقول : ما جاءني من رجلٍ ولا امرأةٍ إلا كان من شأنه كذا ، قلتُ نعم ، ولكنهما وقعا تحت النفي ، فعمَّا كلَّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ ، فرجع الضميرُ على المعنى لا على اللفظ "  .
      ويقولُ أبو حيانٍ : " ولما كان قوله : لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ يعمُّ في سياق النفي ؛ جاء الضميرُ مجموعاً على المعنى في قوله : لَهُمُ مغلباً فيه المذكر على المؤنث "  ، وعلى هذا لا مُخالفة

     وقال تعالى : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الحجرات:9)  ، فقد قال عزَّ وجلَّ : اقْتَتَلُوا ، وعاد الضميرُ على لفظٍ مثنىً طَائِفَتَانِ  ، ثم قال : فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ، مرتين بإرجاعِ ضمير التثينة إلى لفظ الـ طَائِفَتَانِ 

     والسببُ في ذلك لأن لفظ ( الطائفة ) يشملُ عدداً من الناسِ ، فكيفَ بالطائفتين ؟ ، أي أن معنى الطائفتين جمعٌ ؛ فلذلك أعاد ضميرَ جمعٍ عليه ، يقولُ الزمخشريُّ : " هو مما حُمل على المعنى دون اللفظ ؛ لأن الطائفتين في معنى القومِ والناسِ " ، ويقولُ البيضاويُّ : "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ، تقاتلوا ، والجمعُ باعتبار المعنى ، فإن كلَّ طائفةٍ جمعٌ " .
  وأما التثنيةُ في فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ، فسببها النظرُ إلى اللفظ ، يقولُ النسفيُّ : " وثنى فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ، نظراً إلى اللفظ "  .
     ويعللُ الألوسيُّ مراعاةَ المعنى أولاً ثم اللفظَ ، بقوله : " والنكتةُ في ذلك ، ما قِيلَ أنهما أولاً في حال القتالِ مختلطون ؛ فلذلك جمع أولاً ضميرهم ، وفي حال الصلح متميزون متفارقون ؛ فلذا ثنى الضمير "  وبهذا لا مخالفةَ .

     وقد قرأ ابنُ أبي عبلةَ وأبو المتوكلِ الناجي وأبوالجون : ( اقتتلتا )  ، وقرأ زيدُ ابن علي وعبيدُ بن عمير واُبي بن كعب وابنُ مسعودٍ وأبو عمران الجوني : ( اقتتلا )  ، وعلى هاتين القراءتين لا مخالفةَ أيضاً .


 ثانياً – إذا كان الضميرُ جمعاً مؤنثاً :

     فإذا جاء ضميرُ غائبٍ دالٌ على جمع تأنيثٍ ، وجب أن يرجعَ إلى جمعٍ مؤنثٍ مثله ، وهذا ما جاء عليه القرآنُ الكريمُ ، قال تعالى :  وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (البقرة:228) ، والمطابقةُ حاصلةٌ كما هو واضحٌ من الآية ، فالنون من ( يتربصن – بأنفسهن – لهن – يكتمن – أرحامهن – كُنّ – بعولتهن – بردهن – ولهن – عليهن – عليهن ) ، عائدةٌ على المطلقات .

     وقال تعالى :  يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (يوسف:46) ، فالضمير ( هن ) في (يأكلهن) عائدٌ على ( بقراتٍ ) ، والمطابقةُ تامةٌ بين الضمير ومرجعه جمعاً وتأنيثاً .

     وقال تعالى :  كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (الرحمن:58) ، فالضمير ( هن ) في ( كأنهن ) راجعٌ على ( قاصرات الطرف ) ، في قوله تعالى : فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (الرحمن:56) ، والمطابقةُ تامةٌ بين الضمير ومرجعه جمعاً وتأنيثاً ، وغير ذلك من
الآيات . 

ما ظاهره عدم المطابقة :  

     وردت بعضُ المواطن في القرآن الكريم ظاهرها المخالفةُ بين الجمع المؤنث ومرجعه ، قال تعالى : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (البقرة:197) ، فقد عاد ضمير الجمع المؤنث من ( فيهن ) على ( أشهر ) .

     والسببُ في ذلك ، أن ( أشهر) جمعُ قلةٍ ، وجمعُ القلةِ فيما لا يعقلُ يجري كالجمعِ المؤنثِ ، وجمعُ الكثرةِ عكسُهُ ، يقولُ القرطبيُّ : " وقال : فِيهِنَّ ولم يقل : ( فيها ) ، فقال قومٌ : هما سواءٌ في الاستعمال ، وقال المازنيُّ أبو عثمانٍ : الجمعُ للكثير لما لا يعقل ، يأتي كالواحدةِ المؤنثة ، والقليلُ ليس كذلك ، تقولُ : (الأجذاعُ انكسرنَّ ) و ( الجذوعُ انكسرتْ ) ، ويؤيدُ ذلك قوله تعالى : إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ، ثم قال : مِنهَا "  .

     وقال تعالى : وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (فصلت:37) ، فقد عاد ضميرُ الجمع المؤنث ( هن ) من (خلقهن) ، على ( الليل والنهار والشمس والقمر ) .

     والسببُ في ذلك ، كما في الآية المذكورة آنفاً ، يقول الفراءُ : " لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ  خلق الشمسَ والقمرَ والليلَ والنهارَ ، وتأنيثهن في قوله : ( خَلَقَهُنَّ )؛ لأن كلَّ ذكرٍ من غير الناس وشبههم ، فهو في جمعه مؤنثٌ ، تقولُ : ( مرَّ بي أثوابٌ فابتَعتَهَنَّ ) و ( وكانت لي مساجد فهدمتهنَّ وبنيتهنَّ ) ، يُبنى على هذا " .

وقال الزمخشريُّ : " خَلَقَهُنَّ ، الليل والنهار ، والشمس والقمر ؛ لأنَّ حكمَ جماعةِ ما لا
يعقلُ حكمُ الاُنثى أو الإناثِ ، يُقالُ : ( الأقلامُ بريتُها ، وبريتُهنَّ ) "  ، وقد نقلَ أبو حيانٍ كلامَ الزمخشريِّ معلقاً عليه بقوله : " وكان ينبغي أن يُفرقَ بين جمع القلة من ذلك ، فإن الأفصحَ أن يكونَ كضمير الواحدة ، تقولُ : ( الأجذاعُ انكسرتْ ) على الأفصح ، و ( الجذوعُ انكسرنَّ ) على الأفصح ، والذي تقدم في الآية ليس بجمعِ قلةٍ ، أعني بلفظٍ واحدٍ ، ولكنه ذكرَ أربعةً متعاطفةً ؛ فَنُزِّلِتْ منزلةَ الجمعِ المعبر عنها بلفظٍ واحدٍ "  .

     وقد قيلَ إنَّ الضميرَ في خَلَقَهُنَّ عائدٌ على معنى الآياتِ في قوله : وَمِنْ آيَاتِهِ ، يقول الزمخشريُّ : " أو لما قال : وَمِنْ آيَاتِهِ كُنَّ في معنى الآياتِ ؛ فقيلَ : خَلَقَهُنَّ "  ، وقيل إن الضمير يعود على ( الشمس والقمر ) فقط ، على رأي من يقولُ إن أقل الجمعِ اثنان .

Post a Comment

أحدث أقدم