التطابق بين الضمير
ومرجعه في الإفراد :
أولاً - إذا كان الضمير مفرداً مذكراً :
فالأصلُ عند مجيء
ضمير غائبٍ مفردٍ مذكرٍ ، أن يكون مطابقاً لمرجعه ، وهذا ما جاء عليه القرآن الكريم
، قال الله تعالى : كُلَّمَا دَخَلَ
عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى
لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (آل عمران:37) ،
فالضميرُ ( هو ) عائدٌ على ( رزقاً ) ، وقد جاء مطابقاً لمرجعه في العدد والجنس ، فالضميرُ
مفردٌ مذكرٌ وكذا مرجعه .
وقال تعالى : قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ (هود:46) ، فالهاءُ في ( إنه ) عائدةٌ على ابن نوح المذكور قبل هذه
الآية قال تعالى : وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ
فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ
الْحَاكِمِينَ (هود:45) ، وقد
تمت المطابقةُ بين الضمير ومرجعه ، فكلاهما مفردٌ مذكرٌ . وقال تعالى : إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ
وَجِلُونَ (الحجر:52) ، فالضمير في
( عليه ) عائدٌ على ( إبراهيم ) ، وذلك في قوله تعالى : وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (الحجر:51) ، وقد تمت المطابقة
هنا أيضاً وهذا التطابقُ جاء في مواطن كثيرةٍ جداً في القرآن الكريم
.
ما ظاهره عدم المطابقة :
وردت بعض الآيات
في القرآن الكريم ظاهرها المخالفةُ بين الضمير ومرجعه في الإفراد والتذكير ، قال تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ
عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة:180-181) .
نجدُ الضمير في
( بَدَّلَهُ ) ، مفرداً مذكراً ، وقد عاد على ( الوصية ) ، وهي مفردٌ مؤنث ، وظاهر
هذا التخالفُ .
والقولُ في هذه
الآيةِ من وجهين :
الأول:
إن ( الوصية )
في الآية الكريمة بمعنى ( الإيصاء ) ، وهذا لفظٌ مفردٌ مذكرٌ ؛ ولذلك جاز عودُ الضمير
عليه مفرداً مذكراً ، وبهذا تتم المطابقةُ ، قال الواحديُّ : "فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ ، أي بدل الإيصاء وغيره
من وصي وولي وشاهد بعدما سمعه عن الميت "
، وقال الزمخشريُّ : " فَمَنْ بَدَّلَهُ فمن غيَّر الإيصاء
عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء والشهود " .
الثاني :
إن الهاء عائدة
على مفهومٍ من السياق يدلُ عليه الظاهر ، وهو أمر الميت ، فالله تعالى يقول : كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ، فالهاء عائدة على أمر الميت ، قال الطبريُّ : " فإن قال لنا قائلٌ : وعلامَ عادت الهاءُ في قوله :فَمَنْ بَدَّلَهُ ؟ قِيلَ على محذوف من الكلام
يدل عليه الظاهر ، وذلك هو أمر الميت وإيصاؤه إلى من أوصى إليه ، بما أوصى به ، لمن
أوصى له " ، ولفظ ( أمر الميت ) مفردٌ مذكرٌ ، وبه يتم التطابقُ بين الضمير ومرجعه
إفراداً وتذكيراً .
وقد ذكر أبو حيان
أن الضمير في الآية راجعٌ على " أمر الله تعالى في هذه الآية " ، وهو مردودٌ
بقول الطبري رحمه الله ، حيثُ يقولُ : " وإنما قلنا إن الهاء في قوله :فَمَنْ بَدَّلَهُ عائدةٌ على محذوفٍ
من الكلامِ يدل عليه الظاهر ؛ لأنَّ قوله : كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ، من قوله تعالى ، إن تبديل
المُبَدِّل إنما يكون لوصية الموصي ، فأما أمرُ الله بالوصية ، فلا يقدرُ هو ولا غيره
أن يُبدله " .
والأول من الوجهين
أولى ؛ لأن الحملَ على المعنى جارٍ في لسان العرب ، يقول أبو حيان : " والتذكير
على المعنى واردٌ في لسانهم " .
وقال تعالى : إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ
يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (آل عمران:45) ،
فقد عاد ضميرٌ مفردٌ مذكرٌ وهو الهاء من ( اسمه ) على ( كلمة ) ، وهي لفظٌ مفردٌ مؤنثٌ .
والكلامُ هنا من
وجوهٍ منها :
أولاً:
إن ( الكلمة )
في الآية بمعنى ( الخبر ) ، قال الطبريُّ : " وقوله :بِكَلِمَةٍ مِنْهُ يعني برسالة من
الله وخبر من عنده ، وهو من قول القائل : ( ألقى فُلانٌ إليَّ كلمةً سرني بها ) ، بمعنى
: (أخبرني خبراً فَرِحتُ به) " .
ثانياً:
بما أن مُسَمَّى
الكلمة ذَكَرٌ ، وهو نبي الله عيسى ؛ فقد ذَكَّرَ لهذا المعنى ، قال الزمخشريُّ
: " فإن قلتَ : لِمَ ذكَّرَ ضمير الكلمة ؟ قلتُ : لأن المُسَمَّى بها مذكرٌ
" .
ثالثاً : إن عيسى خلقه الله تعالى
بكلمة ، أي أن عيسى أوجده الله تعالى بقوله : كُنْ ، فالمقصود بـ ( الكلمة ) الولدُ الذي
وجوده في الحياة الدنيا بقول الله تعالى : كُنْ ، وقد ذكر الله تعالى هذا الأمر في
عدد من الآيات الكريمة ، قال الله تعالى : قَالَتْ رَبِّ
أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ
مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (آل عمران:47) ،
وقال تعالى : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى
عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (آل عمران:59) ،
وقال جلَّ شأنُهُ : ذَلِكَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ
سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (مريم:34- 35) ،
قال ابن كثير : " قال الله تعالى : إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ
بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ، أي بولدٍ يكون وجوده بكلمةٍ من الله ، أي بقوله كنْ فيكونُ
" . ويقول الزركشيُّ : " و إِنَّ اللَّهَ
يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، تجوّزٌ بالكلمة عن المسيح ؛ لكونه تكوَّن بها من غير أبٍ ، بدليل
قوله : وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، ولا تتصف الكلمة بذلك
" ، والرأي الأخير أولى ؛ لدعم القرآن الكريم له ، وقال تعالى : يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ
لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (التوبة:62) ، فقد
جاء الضمير مفرداً مذكراً ، وهو في الظاهر عائدٌ على مثنىً : لفظ الجلالة ( الله )
ورسوله .
والقول في هذه الآية من وجوه :
أولها :
إن الهاءَ عائدة
على لفظ الجلالة ( الله ) تعالى ، أما رضا الرسول ، فهو من رضى الله تعالى ؛ ولذلك وحَّد
الضمير ، قال البغويُّ : " فالهاء راجعةٌ إلى الله ، ورضا رسوله يندرج في رضى
الله تعالى " ، وقال الزمخشريُّ :
" وإنما وحَّد الضميرَ ؛ لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله ، فكانا في حكم مرضيٍّ
واحدٍ ، كقولك : ( إحسانُ زيدٍ واجماله نعشني وجبر مني " ، وقد جاء في الشعر مثل
قوله تعالى هذا ، قال حسَّانُ :
إنَّ شرخَ الشَّبابِ
والشَّعرِ الأسـ ـود ِ ما لم يُعاصَ
كان جُنونَا
فلم يقلْ ( يُعاصيا ) ؛لأنَّ الشعر الأسود داخلٌ في الشباب .
ثانيها :
إن في الآية حذفاً
، أو تُحملُ على التقديم والتأخير ، يقول أبو جعفرٍ النحاس : " وقوله جلَّ وعزَّ
: المعنى عند سيبويه : والله أحق أن يرضوه
ورسوله أحق أن يرضوه ، ثم حذف " .
وأمَّا القولُ
بالتقديم والتأخير، فهو للمبرد ، ويكون المعنى : " والله أحق أن يرضوه ورسوله
" ، وبهذين المعنيين لا مخالفة .
ثالثها :
لمْ يقلْ ( ترضوهما
) ؛ لأنه لا يُجمعُ بين لفظ الجلالة واسم في ضميرٍ، يقول الجصاصُ : " ولم يقل
: (ترضوهما ) ؛ لأن اسم الله واسم غيره لا يجتمعان في كناية ، وروي عن النبي أنه خطب بين يديه رجلٌ ، فقال : من يطع الله ورسوله فقد رشد
، ومن يعصهما فقد غوى ، فقال النبي : قُمْ ، فبئس خطيب
القوم أنتَ ، لقوله : ومن يعصهما " .
والأول من الوجوه
أولى ؛ لسلامته من الحذف ، أو التقديم والتأخير ، ولورود مثل هذا المعنى في القرآن
الكريم ، قال تعالى : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (آل عمران:31) ، فمحبة الله
لعباده تأتي من اتباع الرسول وحبه ، وكذلك الحال بالنسبة في رضا الله وخشيته .
وقال تعالى : وَآتُوا النِّسَاءَ
صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ
هَنِيئاً مَرِيئاً (النساء:4) ، فالضمير في
( منه ) مفردٌ مذكرٌ ، و مرجعه ( صدقاتهن ) جمعٌ مؤنثٌ .
والقول في هذه
الآية من وجوه منها :
أولاً :
إن ( الصدقات
) في الآية بمعنى ( الصداق ) ، وإذا عاد الضمير في ( منه ) على هذا المعنى ، تتم المطابقةُ
بين الضمير ومرجعه ، قال الواحديُّ : " فَإِنْ طِبْنَ
لَكُمْ أي إن طابت لكم أنفسهن
عن شيءٍ من الصداق ، فكلوه هنيئاً في الدنيا لا يقضي به عليكم سلطانٌ ، مريئاً في الآخرة
لا يؤاخذكم الله به " ، وقال الزمخشريُّ : أو يرجع الضميرُ إلى ما هو في معنى
الصدقات ، وهو الصداق " .
ثانياً :
إن الضمير في الآية
يجري مجرى اسم الإشارة ، " فكأنَّه قيل عن أي شيءٍ من ذلك ، كما قال الله تعالى : قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ
بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ ، بعد ذكر الشهوات ، ومن الحجج المسموعة
من أفواه العرب ما روي عن رؤبة أنه قيل له في قوله :
كَأنَّهُ فِي الجِلدِ تَولِيعُ البَهَق
فقال : أردتُ كأن ذاك " .
وقد ذكر أبو حيانٍ
غير هذين الوجهين ، فقد جاء في البحر المحيط : " وقيل يعود على المال ، وهو غير مذكورٍ ، ولكن يدل عليه صدقاتهن
، وقيل يعود على الإيتاء ، وهو المصدر الدال عليه ( وآتوا ) ، قاله الراغبُ ، وذكره
ابنُ عطيةٍ " ،
والأول أولى ؛
لأنه جرى في كلام العرب الحملُ على المعنى في التأنيث والتذكير .
مما سبق نستطيع
القول إن المطابقة بين الضمير المفرد المذكر ومرجعه ، هي الغالبة في القرآن الكريم
، وما جاء في ظاهره مخالفاً لهذه المطابقة ، فإنه راجعٌ إلى الحمل على المعنى ، كما
مرَّ .
ثانياً– إذا كان الضمير مفرداً مؤنثاً :
فالواجبُ في الضمير
المفرد المؤنث المطابقةُ مع مرجعه إفراداً وتأنيثاً ، وهذا هو الغالب في القرآن الكريم ، قال تعالى : وَإِذْ قُلْنَا
ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدا (البقرة:58) ، فالضمير في ( منها ) عائدٌ على القرية ، والمطابقة
حاصلةٌ بين الضمير ومرجعه إفراداً وتأنيثاً
وقال تعالى : قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ
أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (يوسف:26) ، فالضمائر : ( هي ) ، والهاء من ( أهلها ) والمستتر
في ( فصدقت ) ( هي ) ، راجعةٌ إلى امرأة العزيز ، وذلك في قوله تعالى : قَالَتِ امْرَأَتُ
الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ (يوسف:51) ، والمطابقةُ حاصلةٌ بين هذه الضمائر
ومرجعها إفراداً وتأنيثاً .
وقال تعالى : فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً
مِنْ قَوْلِهَا (النمل:19) ،فالهاء في ( قولها ) ، راجعةٌ على
(النملة) في قوله تعالى : حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ
يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (النمل:18) ، والمطابقةُ
أيضاً حاصلةٌ بين الضمير ومرجعه إفراداً وتأنيثاً ، وغير ذلك كثيرٌ جداً في القرآن
الكريم .
ما ظاهره عدم المطابقة
وردت بعضُ المواطن
في القرآن الكريم ظاهرها المخالفة بين الضمير المفرد المؤنث ومرجعه ، من ذلك قوله تعالى : وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (البقرة:45) ، فقد تقدم على الضمير في ( وإنها ) شيئان هما
: ( الصبر والصلاة ) ، وظاهر ذلك المخالفة .
والقول في هذه
الآية من وجوه منها :
أولاً :
إن الضمير عائدٌ
على ( الصلاة ) وحدها ، والصبر مندرجٌ تحتها ، جاء في جامع البيان :
" وَإِنَّهَا ، وإن الصلاة ، فالهاء
والألف في ( وإنها ) عائدتان على الصلاة " ، وهو رأي ابن عباس والحسن ومجاهد ، ولا مخالفة في ذلك .
ثانياً :
إن الضمير يعود
على المصدر وهو ( الاستعانة ) ، المفهومة من قوله تعالى : وَاسْتَعِينُوا ، يقول صاحب مشكل إعراب القرآن :
" وقيل بل يعود على الاستعانة ، ودلَّ على الاستعانة قوله : وَاسْتَعِينُوا " ،
ويقول أبو حيانٍ : " " وقيل يعود على الاستعانة ، وهو المصدر المفهوم من
قــــــوله : وَاسْتَعِينُوا ، فيكون مثل : اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ، أي العـــــدل أقرب ،
قاله البجلي
" ، وقد ذكر هذا الرأي محمد بن
القاسم النحوي ، والمطابقة حاصلة أيضاً .
ثالثها :
إنَّ الضمير عائدٌ
على الكعبة ، يدل على ذلك ذكرُ الصلاة ، جاء في زاد المسير : " والثاني أنها للكعبة
والقبلة ؛ لأنه لما ذكر الصلاة دلت على القبلة ، ذكره الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال
مقاتل " ، وقد ذكر أبو حيانٍ سبعة أقوالٍ في هذه الآية من ضمنها الثلاثة التي
ذكرنا .
وأرجح هذه الأقوال
، أولُهُا ؛ ذلك لأن الصلاة أعمُّ من الصبر
، وظاهر الكلام يدل عليـــها ، " وهو القاعدة في علم العربية : أن ضمير
الغائب لا يعودُ على غير الأقرب إلا بدليل " ، ويقول الألوسي :
" وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ
إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ، الضمير للصلاة كما يقتضيه الظاهرُ
، وتخصيصها برد الضمير إليها ؛ لعظم شأنها ، واستجماعها ضروباً من الصبر
" .
إضافةً على ذلك
، ذكر الله تعالى في هذه الآية نفسها لفظ
( الخاشعين ) ، وهذه الصفة من صفات المصلين المفلحين ، قال تعالى : قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ
فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (المؤمنون:1-2)
، وسئل الإمامُ عليّ بن أبي طالب عن قوله تعالى : الَّذِينَ هُمْ
فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ،فقال : " الخشوعُ في القلب
، وأن تُلين كتفكَ للمرأ المسلم ، وأن لا تلتفت في صلاتِكَ " ، وجاء في الحديث
: " كان رسول الله إذا حَزَبَهُ أمرٌ
، صلى " .
وقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ
الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ (التوبة:34) ، فقد ورد الضمير مفرداً مؤنثاً في
( ولا ينفقونها ) ، وقد تقدمه شيئان هما : ( الذهب والفضة ) .
والقول في هذه
الآية من وجوه منها :
أولاً :
إنَّ الضمير يعود
على ( الكنوز ) المفهوم من ( يكنزونها ) ، يقول أبو جعفرٍ النحاس : " يجوز أن
يكون المعنى ولا ينفقون الكنوز ؛ لأن الكنوز تشتمل على الذهب والفضة ها هنا "
، ويقول البغويُّ : " قوله عزَّ وجلَّ : وَلا يُنْفِقُونَهَا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ قيل لِمَ قال : ( ولا ينفقونها ) ، ولمْ يقلْ: ( ينفقونهما ) ، وقد ذكر( الذهب والفضة ) جميعاً
؟ قِيلَ : أراد الكنوزوأعيان الذهب والفضة " .
ثانياً :
إنَّ الضمير يعود
على الفضة ، والذهب داخلٌ في حكمها، جاء في مشكل إعراب القرآن : " وقيل تعود على
الفضة ، وحذف ما يعود على الذهب ؛ لدلالة الثاني عليه " .
ثالثاً :
إنَّ الضمير عائدٌ
على الذهب ؛ لأن لفظه يُذكرُ ويؤنث ، يقول العكبريُّ : " وقيل يعود على الذهب
، ويذكر ويؤنث " ، ويقول القرطبيُّ : " والذهب تُؤنثه العرب ، تقول : هي
الذهبُ الحمراءُ ، وقد تذكر ، والتأنيث أشهر " ، وقد ذكر العلماءُ أقوالاً أُخرى .
والوجه الثاني
أولى ؛ وذلك لأن الفضة أقرب المذكورين ، وهو أعمُّ وأغلبُ ،فالذهب داخلٌ في الفضة ، فهي أكثرُ تداولاً في
أيدي الناس .
وأمرٌ آخرُ ، فعند
عود الضمير على الفضة في ( ينفقونها ) ، فإن الذهب يكون من باب أولى ؛ لأنَّهُ أغلى
وأثمن ، ويصبح الزجرُ عن كنزه من دون أداء زكاته أقوى ، وهذا الأمر واردٌ في كتاب الله
تعالى ، فقد ذكر الله في برِّ الوالدين : وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا
تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (الإسراء:23) ، فقولُ ( أُفٍ ) وهو أدنى مراتب الأذى ، محذورٌ
، فكيف بضربهما ؟! .
إرسال تعليق