أقسام الواجب من حيث وقت الإيقاع  :
قسم الأصوليون الواجب من حيث وقت الإيقاع إلى :
‌أ.                   مطلق عن الوقت .       ب .  مقيد بوقت ،
 وفيما يلي دراسة لهما في المطلبين التاليين :

المطلب الأول : الواجب المطلق عن الزمان
  وهو ما طلب الشارع فعله دون أن يقيد أداءه بوقت معين ، فللمكلف أن يفعله في أي وقت شاء ، وتبرأ ذمته بهذا الأداء ، ولا إثم عليه في التأخير عن وقت الاستطاعة إلى وقت آخر يستطيعه ، ولكن ينبغي له المبادرة إلى الأداء ، لأن الآجال مجهولة ولا يعلم الإنسان متى تحل به مصيبة الموت ، وفعل الواجب في أي من الأوقات المطلقة يسمى أداء .
ومن هذا النوع : قضاء رمضان لمن أفطر بعذر ، فعليه عدةٌ من أيام أخر من غير تقييد بزمن ولا بعام مخصوص عند الحنفية [1] لإطلاق النص القرآني : { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } (  البقرة 184 ) ، ولكن : قيده الجمهور بالعام الذي كان فيه الإفطار ، فإن أخره مع إمكانه من غير عذر حتى دخل رمضان آخر فعليه مع قضاء كل يوم فدية [2].
وكذلك الحج : عند من يقول بأنه واجب على التراخي وليس واجباً على الفور [3].
ومثلها كفارة اليميـن : فإنها ليـس لها وقت معيـن ، فله أن يُكَفّرَ بعـد الحنث مباشـرة ، أو بعد ذلك .
ولا ريب أن التعجيل في أداء الواجب مستحب ، إذ هو مسارعة إلى إبراء الذمة مما شُغلت به ، ولكن : من الجائز تأخير الامتثال على وجه لا يفوت به الواجب ، ولا يكون عندها آثماً ، مع أفضلية المبادرة .
ومما تجدر ملاحظته : أن اعتبار الحج من قبيل الواجب المطلق عن الزمان – عند القائلين بوجوبه على التراخي – لا يعني أنه يجوز فعل أركان الحج في أي زمان ، إذ هذا من حيـث أصـل الوجوب ، فليـس له زمـن معيـن كالصـلاة والصيام إذا جاء وقتها المعلوم فقد وجب الأداء .
 أما من حيث أداء أفعال الحج فإن لها وقتاً معيناً ، فهو كما أوضحت الآية  {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } (  البقرة197 ) ، فلا يصح الحج في غير أشهره ، كما إن بعض أركانه لا يصح أداؤها إلا في أوقاتها المقدرة ، كالوقوف بعرفة : فإنه يكون في اليوم التاسع من ذي الحجة وبعد الزوال . وبذلك يختلف زمن الأداء عن أصل الوجوب – عند القائلين بوجوبه على التراخي .
   أما بناء على القول بالوجوب على الفور فإن زمن الوجوب هو سنة الاستطاعة ، ولا خلاف في زمن أداء الأركان والواجبات ، وبذلك يعتبر – بناء على قولهم – الحج واجباً مقيداً بزمان محدد .

المطلب الثاني :  الواجب المقيد بزمان :
وهو ما طلب الشارع فعله وعين لأدائه وقتاً محدداً .
وبذلك يكون الزمان المعين أمارة الوجوب فيه ، لأن الشارع إما أن يكون قد أقام الوقت سبباً للفعل ، أو نصبه علامة دالة عليه  أو ظرفاً يتأدى الواجب فيه كوقت الصلاة فإنه إذا دخل كان دالاً على وجوب أدائها ، فإذا دخل وقت العصر وجب أداؤها .
وكذلك شهر رمضان بالنسبة لوجوب الصيام : فدخول الشهر يوجب الصيام { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } (  البقرة185) .
فالإلزام بالواجب المقيد منصب على الفعل وعلى وقت الفعل . وأما الإلزام في الواجب المطلق فمنصب على الفعل فقط دون تقييد  بوقت معين .
هذا وإن المكلف إذا أدى الواجب في وقته بصورة صحيحة كاملة سمي فعله هذا أداءً ، وإن فعله في الوقت المعين ناقصاً ثم أعاده كاملاً في ذلك الوقت سُمي فعله الثاني إعادة .
كما إن الأصوليين متفقون كذلك على أن الواجب إذا لم يُفعل في وقته المقدر وفُعل بعده أنه يكون قضاءً حقيقة سواءٌ تركه عمداً أو سهواً [4] .
كما إنهم متفقون على أن ما لم يجب ولم ينعقد سبب وجوبه في الأوقات المقدرة ففعله بعد ذلك لا يكون قضاءً لا حقيقة ولا مجازاً ، كفوائت الصلوات في حال الصبا والجنون [5] .
ولكن اختلفوا في ما انعقد سبب وجوبه ، ولم يجب لمانع أو لفوات شرط من خارج ، سواءً كان المكلف قادراً على الإتيان بالواجب في وقته كالصوم في حق المريض والمسافر، أو غير قادر عليه : إما شرعاً كالصوم في حق الحائض ، وإما عقلاً كالنائم : هل يُسمى قضاءً حقيقية أو مجازاً [6] ؟
فمنهم من مال إلى التجوّز مصيراً منه إلى أن القضاء إنما يكون حقيقة عند فوات ما وجب في الوقت استدراكاً لمصلحة الواجب الفائت ، وذلك غير متحقق فيما نحن فيه ، ووجوبه بعد ذلك الوقت بأمر مجدد لا ارتباط له بالوقت الأول ، فكان إطلاق القضاء عليه تجوزاً .
ومنهم من مال إلى أنه قضاء حقيقة لما فيه من استدراك مصلحة ما انعقد سبب وجوبه ولم يجب للمعارض [7] .
هذا وإن ما يفعله المكلف إذا نُظر إليه من جهة زمن إيقاعه فهو أحد أمرين :
1 . إما أن يفعله قبل دخول وقته ، وهذا تقديم له عن زمنه الذي أراد الشارع من المكلف إيجاد الفعل فيه ، والتقديم لا يصح إلا إذا أذن الشارع الحكيم بذلك [8] .
فمن صلى قبل دخول وقت الصلاة ـ إن لم يكن مرخصاً له بالتقديم ـ لا يعتبر فعله مسقطاً للواجب ، وتبقى ذمته مشغولة بها ، وعليه فعلُها في وقتها المضروب لها .
2 . وإما أن يفعله بعد دخول وقته ، وهو قسمان :
الأول : أن يُفعل في الوقت المحدد ، وله صفتان : أداء ، وإعادة .
 الثاني : أن يُفعل بعد خروج الوقت المحدد ، وله صفة هي القضاء [9].
ولا بد من بيان هذه المفردات في الفروع التالية :

الفرع الأول : الأداء :    هو إيقاع العبادة في وقتها المعين لها شرعاً لمصلحة اشتمل عليها الوقت [10] .
 فالأداء : ما فُعل في وقته المقدر له أولاً شرعاً [11].
 والأداء ثلاثة أنواع :
أ ـ أداء كامل : وهو ما يؤديه الإنسان بوصفه كما شرع : كالصلاة جماعة ، إذ ما شرعت الصلاة إلا جماعة [12].
ب ـ أداء قاصر : وهو ما يكون النقصان في صفته ، كأداء الصلاة منفرداً ، فإنه قاصر لنقصان في صفة الأداء في ما هو مأمور بالأداء جماعة ، ولهذا لا يجب على المصلي المنفرد الجهر ـ كما ذهب إليه الحنفية [13] ـ ويجب على من يصلي جماعة .
 ج ـ أداء يشبه القضاء : كمن نام خلف الإمام ثم انتبه بعد فراغه ، أو أحدث أثناء الصلاة ، وهو المسمى باللاحق الذي أدرك أول الصلاة وفاته الباقي ، فإنه مؤدٍ باعتبار بقاء الوقت أداءً يشبه القضاء باعتبار فوات ما التزمه من الأداء مع الإمام بفراغه . فهو باعتبار الوقت مؤد ، وباعتبار الوصف قاضٍ [14].
ومن هنا يظهر لنا صورتان للأداء :
الأولى : فعل جميع العبادة في الوقت ، وهو أداء كامل .
الثانية : فعل بعض العبادة في الوقت ، والباقي بعده ، ويعتبر أداء ناقصاً .
ومراد الأصوليين بالأداء : الأداء الكامل فقط [15] .
الفرع الثاني:  الإعادة : وهي فعل ما فعل من العبادة في الوقت المقدر ثانياً بعد فعله أولاً مطلقاً سواء كانت الإعادة لخلل في الفعل الأول أو غير ذلك [16].
فلو صلى الصلاة في وقتها صحيحة ، ثم أقيمت الصلاة في المسجد وصلى ، فإن هذه الصلاة تسمى معادة عند الجمهور خلافاً للحنفية [17].
الفرع الثالث :  القضاء :  ويراد به فعل الواجب بعد خروج  وقته المحدد .
قال الغزالي في تعريفه : ( والقضاء اسم لفعل ِ ما فات وقته المحدد ) [18]. فالقضاء ما فُعل بعد وقت الأداء ولو كان لعذر تمكن منه كمسافر أو لا ، أو لمانع شرعي كحيض ، أو عقلي كنوم [19]، ولو كان التأخير عمداً أو سهواً .
ويرى الحنفية أن القضاء تسليم مثل الثابت بالأمر بعد وقته [20].
وقد يُطلق القضاء ويراد به الأداء ، ومن ذلك قوله تعالى : {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } (  البقرة200 )  أي : أديتم وأتممتم أمور الحج [21] .
ولا يدخل النفل في القضاء ، لأن القضاء مبني على كون المتروك مضموناً ، والنفل لا يُضمن بالترك ، وأما إذا شرع في النفل ثم أفسده فإنما يجب القضاء لأنه بالشروع فيه صار ملحقاً بالواجب لا لأنه نفل كما قبل الشروع ، فالشروع في النفل لا يُبقيه كذلك بل يُصَيّرُه واجباً [22].
ويشترط في القضاء [23] :
1 .  أن يكون القضاء مثل ما فات ، ولهذا لا يكون بالصلاة قضاء عن الصوم ، وكذا الأضحية ، إذ هي قربة بإراقة الدم عُرف بنص غير معقول المعنى ، ولها وقت محدد ، فإذا مضى الوقت فقد فاتت ، لأن مثله غير مشروع قربة للعبد في غير ذلك الوقت [24].
2 .  أن يكون المقضي مأموراً به ـ أي واجباً ـ ، فإن لم يكن مأموراً به أو واجباً فلا قضاء عنه .
3 .  أن يكون سبب القضاء فوات ما أُمر به ، فإن من فاته صيام يوم من رمضان فأدرك عدة من أيام أخر ولم يصم ، فإذا صام بعد ذلك يكون صيامه قضاء عن رمضان لا عن الأيام الأخر التي أدركها ولم يصم .
4 .  أن يكون القضاء مأموراً به ، لأنه إن لم يكن كذلك بل كان نفلاً فإنه لا يكون قضاءً عن شيء .
ومن الملاحظ أن الفعل إذا لم يكن واجباً : كصلاة الصبي فإن فعلها بعد خروج وقتها لا يُسمى قضاء إجماعاً ، لأن الصلاة لم تكن واجبة عليه حتى يقضي [25] ، وكذا ما لم يجب ، ولم ينعقد سبب وجوبه في الأوقات المقدرة ففعله بعد ذلك لا يُسمى قضاء لا حقيقة ولا مجازاً ، كفوائت الصلوات في حال الصبا والجنون [26] .


[1] ) الكاساني ، بدائع الصنائع 2 / 104 ، السرخسي ، أصول السرخسي  2 / 83 ، التفتازاني ، التلويح على التوضيح 2 / 36 0
[2] ) الشربيني ، مغني المحتاج  1 / 441 ، ابن اللحام ، القواعد والفوائد الأصولية   / 73 0
[3] ) وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ، وقال محمد هو على التراخي ، وهو رواية عن أبي حنيفة ، يراجع في ذلك : المنبجي ، اللباب في الجمع بين السنة والكتاب 1 / 413 0
[4] ) البخاري ، كشف الأسرار 1 / 309 0
[5] ) المرداوي ، التحبير شرح التحرير 2 / 853 0
[6] ) البخاري ، كشف الأسرار 1 / 310 0
[7] ) المرجع نفسه 1 / 310  0                                                                                                                                                                                                                
[8] ) يمكن التمثيل لما أذن الشارع بتقديمه بصلاة الظهر والعصر في الحج يوم عرفة ، وهو مما لا خلاف فيه ، وكذا بسبب السفر ، أو المطر كما هو عند الجمهور ، بينما لم يرخص بتقديم الصيام ، ولا الحج عن موعده ، واختلف في تقديم الزكاة قبل الحول ،    ابن حزم ، النبذ في أصول الفقه ، / 80 0
[9] ) الشيرازي ، شرح اللمع ،  / 253 0
[10])  القرافي ، تنقيح الفصول / 72 ، ابن جزي ، تقريب الوصول إلى علم الأصول / 105 ، السمرقندي ، ميزان الاصول 1 / 169 ، البدخشي ، مناهج العقول شرح منهاج الأصول  1 / 81 ، الغزالي ، المستصفى  1 / 95  0
[11] ) ابن النجار ، شرح الكوكب المنير  1 / 365 0
[12] ) الشاشي  أصول الشاشي/ 146 ، السرخسي ، المحرر في أًصول الفقه / 34 ، البزدوي ، أصول البزدوي1 /327 0
[13] ) النسفي ، كشف الأسرار 1 / 71 ، السرخسي ، المحرر / 34 ، الخبازي ، المغني في أصول الفقه / 54 – 55 0
[14] ) البخاري ، كشف الأسرار 1 / 327 – 328 ، الخبازي ، المغني في أصول الفقه  / 54 0
[15] ) الزليطي ، الضياء اللامع  1 / 231 ،
[16] ) ابن النجار ، شرح الكوكب المنير1 / 368 0
[17] ) ذهب الجمهور إلى أن فعلها ثانية يسمى إعادة ، كمن صلى منفرداً ثم حضر الجماعة فصلى معهم ثانية ، وخالف في
ذلك  الحنفية وقيدوا الإعادة بحالة الخلل في الفعل الأول دون العذر ،   الغزالي ، المستصفى  1 / 95 ، الأنصاري ، فواتح الرحموت 1 / 85 ، البدخشي ، مناهج العقول  1 / 83 ، أمير باد شاة ،  تيسير التحرير 2 / 199 0
[18] ) الغزالي ، المستصفى1  / 95  0
[19] ) ابن النجار ، شرح الكوكب المنير  1 / 367 0
[20] ) النسفي ، المنار  1 / 64 ، الخبازي ، المغني في أصول الفقه ، / 54  0
[21] ) التفتازاني ، التلويح  1 / 162 ،
 [22]) النسفي ، كشف الأسرار   1 / 64  ، البخاري ، كشف الأسرار ، 1 / 306 0
[23] ) الإسمندي ، بذل النظر / 111 0
[24] ) السرخسي ، المحرر  1 / 36 0
[25] ) ابن النجار ، شرح الكوكب المنير  1 / 368  0
[26] ) الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام  1 / 156 0

Post a Comment

Previous Post Next Post