طرق إفادة الكراهة :
للدلالة
على الكراهة طرق يمكن إيجازها في التالية :
1.
اللفظ
الصريح بالكراهة :
ويمكن التعبير عنه بمادة كره وما يشبهها
من الألفاظ ، مثل قوله r : "إن الله حرم عقوق الأمهات ، ووأد البنات ، ومنعاً وهات ،
وكره لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال " [1].
2.
صيغة
النهي المقترن بما يدل على الكراهة : مثل قوله تعالى في
كراهة السؤال عن المباح خشية أن يحرم على المؤمنين {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ
وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ
عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } ( المائدة101
) .
أما القرينة الدالة على إرادة الكراهة وليس
التحريم : فهي قوله تعالى بعد ذلك {وَإِن تَسْأَلُواْ
عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } .
ويمكن
كذلك التمثيل له بالبيع عند النداء لصلاة الجمعة – بحسب القائلين بعدم التحريم –
مع أن الآية " وذروا البيع
" قد دعت إلى ترك البيع وهو مشروع ومباح ، ولكن النهي عنه عند النداء خشية
الانشغال والغفلة عن أداء الصلاة .
وكذلك
النهي عن أكل البصل والثوم ثم التوجه إلى المساجد للصلاة ، والنهي لا يفيد التحريم
وإنما الكراهة ، بسبب الرائحة المنبعثة من أكل البصل والثوم .
وقد
يُعبّر عن الكراهة بالنهي عن الفعل مع قرينة تصرفه عن التحريم [3]
.
ويمكن
أن يمثل لذلك بقوله تعالى {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ
فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ( الجمعة 9 )
، فإن النهي في قوله " وذروا البيع " محمول عند
بعض العلماء على الكراهة [4]
، لورود القرينة الصارفة للنهي فيه من التحريم إلى الكراهة وهي أن النهي في هذا
الوقت ليس لذات البيع ، وإنما للخوف من الانشغال بالبيع عن الصلاة والمبادرة إلى
الجمعة ، فدرءاً للمفسدة وسداً للذريعة نُهي المكلف عما قد يؤدي إلى إهمال ما وجب
في حقه ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن من لم تجب عليه صلاة الجمعة لا يتوجه إليه
النهي عن البيع أو الشراء وقت النداء للجمعة .
3
. ومن الصيغ الدالة على الكراهة :
التصريح بأن النهي غير جازم . كما جاء في قول أم عطية الأنصارية " نُهينا عن اتباع الجنائز ولم يُعزم
علينا " [6] .
والظاهر
من قول أم عطية أن النبي r هو الذي نهى عن ذلك .
وقولها : " ولم يعزم علينا " : أي لم
يؤكد علينا في المنع ، كما أكّد علينا في غيره من المنهيات ، فكأنها قالت : كره
لنا اتباع الجنائز من غير تحريم . وإلى
القول بالكراهة ذهب جمهور أهل العلم ، ومال مالك إلى الجواز ، وهو قول أهل المدينة
[7]
.
المطلب الثالث : حكم المكروه :
معلوم أن المكروه منهي عنه نهياً غير جازم ، فهو مطلوب الترك
من غير إلزام ، وبذلك يترجح جانب العدم على جانب الإيجاد .
ولئن كان المكروه والمحرم يشتركان في أن كلاً منهما منهي عنه
، ولا يحبه الشارع الحكيم ، إلا أنهما يفترقان في أن التحريم حتمي جازم ، ويذم
فاعله ، وهو أشد بغضاً ، وأولى بالاجتناب ، بينما المكروه لا إلزام بتركه ، فكان
لا بد من تخفيف حكمه إذا قوبل بالحرام .
ولذلك : لا يعاقب فاعل المكروه ، ولا يترتب عليه ذم كما هو
الحال في فعل الحرام ، ولا يعني هذا أن المكروه كالمباح من حيث التسوية في ارتفاع
الحرج عن الفعل ، وإنما يكون فعل المكروه لوثةً مخالفة في صحيفة الإنسان ، ويُقال
لفاعله مخالف ، ومسيء ، وغير ممتثل ، مع أنه لا يذم فاعله ولا يأثم على الصحيح [8]
.
قال الإمام أحمد في من زاد على التشهد الأول : " أساء
" . وعن تارك الوتر قال : " رجل سَوْءٍ مع أنه سنة " [9]
.
قال صدر الشريعة [10]
: ( والمكروه نوعان : مكروه كراهة تنزيه ، وهو إلى الحل أقرب ). وقال التفتازاني
في معرض بيانه لكلام صدر الشريعة : ( وهو إلى الحل أقرب بمعنى : أنه لا يعاقب
فاعله أصلاً لكن يثاب تاركه أدنى ثواب ، ومعنى القرب إلى الحرمة أنه يتعلق بمحذور
دون استحقاق العقوبة بالنار كحرمان الشفاعة ) [11]
.
أما فعل المكروه تنزيهاً على وجه الاستهانة به ، أو استصغاره
، أو احتقار حكمه ، أو تقصّداً في إرادة فعله معاندة ومشاقّة لله ورسوله r فإن الفعل عندئذ ينقلب حراماً ، فيصير
أشبه بمن ترك المندوب إليه استخفافاً واستحقاراً .
موقف
الشاطبي من المكروه [12]
:
يرى أبو اسحق الشاطبي
أن الفعل إذا كان مكروهاً بالجزء كان ممنوعاً بالكل ، ومثّل لذلك باللعب بالشطرنج
، والنرد بغير مقامرة ، وسماع الغناء المكروه ، فإن مثل هذه الأشياء إذا وقعت بغير
مداومة لم تقدح في العدالة ، فإن داوم عليها قدحت في عدالته .
فكما أن أبا اسحق يرى
أن الفعل إذا كان مندوباً بالجزء فهو واجب بالكل ، وتاركه جملة مُجرّحٌ لأن ذلك
مؤثر في أوضاع الدين ، والمداومة على المكروهات مخرج عن المروءة وحلول بمواطن
التهم .
فالوقوع في المكروهات سبيل للوقوع في المحارم ، وقد يؤدي
التساهل إلى اقتراف ما هو أقبح ، فكما أن المندوب خادم للواجب لأنه إما مقدمة
له أو مكملا ً له ، أو تذكاراً به فكذا
المكروه مع الحرام [13]
.
[1] ) الإمام البخاري ، الجامع الصحيح ، كتاب عقوق الوالدين من
الكبائر 8 / 4 ، الإمام مسلم ، صحيح مسلم ـ كتاب الأقضية ـ باب النهي عن
المسائل 3 / 1341 0
[2] ) رواه أبو داود ، سنن أبي داود ـ كتاب الطلاق ـ باب في
كراهة الطلاق 2 / 255 ، والحاكم في المستدرك 2 / 196 ، والبيهقي في السنن
الكبرى 7 / 322 0 ( ضعيف ) ، الألباني
، إرواء الغليل 1 / 405 رقم 2040 0
قال الخطابي : ( ومعنى
الكراهة فيه منصرف إلى السبب الجالب للطلاق وهو سوء العشرة وقلة الموافقة لا إلى
نفس الطلاق فقد أباح الله الطلاق ، وثبت عن رسول الله r أنه طلق بعض نسائه ثم راجعها ) / معالم السنن 3 / 199 0
وقال الإمام الغزالي :
( وأما المكروه فهو الطلاق عند الالتئام وسلامة الحال ) / الرافعي ، فتح العزيز
شرح الوجيز 8 / 481 0
[3] ) الإمام الشافعي ، الرسالة / 217 ، الباجي ، الإشارة
/ 180 ، القرافي ، شرح تنقيح الفصول / 168 ، الفراء ، العدة في أصول
الفقه 2 / 425 ، الأنصاري ، فواتح الرحموت 1 / 396 ، الأرموي ، التحصيل
من المحصول 1 / 334 0
[4] ) إمام الحرمين ، التلخيص في أصول الفقه 1 / 482 ، النووي
، المجموع 3 / 154 ، ابن النجار ، شرح الكوكب المنير 1 / 396 0
[5] ) الترمذي ، سننن الترمذي ، كتاب الصلاة ـ باب الصلاة في
مرابض الغنم وأعطان الإبل 2 / 180 رقم 348 0( صحيح ) ، الألباني ، إرواء الغليل 1
/ 152 0
ومرابض الغنم ومعاطن الإبل : الأمكنة التي تجثم
فيها الغنم ، وتبرك فيها الإبل للمبيت أو للشرب ، / ابن منظور ، لسان العرب 7 / 152 ،
الصنعاني ، سبل السلام 1 / 136 ، والنهي هنا للكراهة لما في مبارك الإبل من
قطع الخشوع بسبب نفورها ، وما قد تحدثه من أذى ، وذهب فريق إلى القول بحرمة الصلاة في معاطن
الإبل وهو رواية عن أحمد ، وظاهر مذهب مالك ، وهو قول أهل الظاهر ، / ابن
رشد ، بداية المجتهد 1 / 120 ، ابن جزي ، القوانين الفقهية / 55 ،
ابن حزم ، المحلى 4 / 24 ، الصنعاني ، سبل السلام 1 / 136 ،
الشوكاني ، نيل الأوطار 2 / 141 0
[6] ) الإمام البخاري ، الجامع الصحيح ـ كتاب الجنائز ـ باب
اتباع النساء الجنائز 2 / 99 ، والإمام مسلم ، صحيح مسلم 2 / 646 0
[7] ) ابن حجر ، فتح الباري 3 / 145 ، الصنعاني ، سبل
السلام 2 / 108 0
[8] ) ابن النجار ، شرح الكوكب المنير 1 / 420 0
[9] ) ابن بدران ، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد / 64 0
[10] ) صدر الشريعة، التوضيح لمتن التنقيح 2 / 125 0
[11] ) التفتازاني ، التلويح على التوضيح 2 / 126 0
[12] ) الشاطبي ، الموافقات 1 / 133
[13] ) المرجع نفسه /
152
Post a Comment