تعريف الندب
لغة واصطلاحا
تعريف الندب ، وفيه فرعان :
الفرع الأول : الندب لغة :
لا يسألون
أخاهم حين يندبهم في النائبات
على ما قال برهاناً
ومنه الحديث
: " انتدب الله لمن يخرج في سبيله
" [3] أي
: أجاب له طلب مغفرة ذنوبه[4]
. فالندب : الدعاء إلى أمر مهم ، كأن يندب إنسان قوماً إلى أمر أو حرب أو معونة :
أي يدعوهم إليه ، فينتدبون له ، أي يجيبون ويسارعون . وندب القوم إلى الأمر يندبهم
ندباً : دعاهم وحثهم ، والمندوب هو المطلوب [5] .
ويأتي الندب أيضاً لثلاثة معانٍ [6]
: إحداها : الأثر ، والثاني : الخطر ، والثالث : الدلالة على خفة في شيء . والمعنى
الثالث هو المناسب لهذا المقام لما فيه من الخفة . إذ يقال رجل ندب خفيف في الحاجة
، سريع ظريف يجيب .
والمندوب
إليه : المدعُوُّ إليه ، ثم حذف لفظ ( إليه ) تخفيفاً ، وبذلك يسمى مندوباً .
الفرع الثاني : الندب اصطلاحاً :
أما في
الشـرع : عرّفه القاضي أبو يعلى الفراء بأنه
: " اقتضاء الفعل بالقول ممن هو دونه على وجه يتضمن التخيير بين الفعل
والترك " [7].
وقال
الشنقيطي في حدّه : " الخطاب المقتضي
من المكلف أو الصبي إيجاد الفعل اقتضاء غير جازم بأن جوّز تركه " [8].
ويكمننا
تعريفه بأنه : خطاب الشـارع المتعلق بأفعال المكلفين بطلب الفعـل على غير وجه
الحتم واللزوم .
والمندوب :
ما طلب الشارع فعله طلباً غير جازم .
وإتيان
المندوب أولى من تركه ، وهو فعل مقتضًى شرعاً من غير لوم على تركه ، وفي فعله ثواب
، وفاعله يستحق المدح ، ولا بأس بتركه دون ترتب مُساءلة [9].
ويُلاحظ في
تعريف المندوب عند الأصوليين بعض الأمور منها :
1. اتفاقهم
على أن المندوب مطلوب ٌ فعلُه ، وقد ورد به الدليل ، وبذلك فهو يتفق مع الواجب في
أن كلاً منهما مطلوبٌ إيجادُه .
2. لا
خلاف في أن الطلب في الندب غير حتمي ، فهو في هذا يختلف عن الإيجاب ، حيث إن الطلب
فيه حتمي .
3. يترتب
على فعل المندوب المدحُ والثوابُ ، فهو يلتقي مع الواجب في ما يترتب على الفعل ،
ولكن أجر فعل الواجب أكبر من فعل المندوب ، إذ الفرائض أحب الأعمال إلى الله تعالى
[10]
.
4. لا
يترتب على ترك المندوب إثم ، وهو مما لا يوجد فيه بين العلماء خلاف ، إلا أن
يُنكِرَ أصل ندب الفعل من غير دليل أو تأويل ، ولو ترك المندوب إليه قاصداً
المخالفة فتلحقه اللائمة لعصيانه لا لترك المندوب إليه [11]
. فترك المندوب استهانة به كمن يواظب على ترك السنن الرواتب فقد يلحقه إثم لهذا
الترك ، وكذا من يترك بعض السنن التي هي
من شعائر الدين : كما لو اتفق أهل بلد على ترك الأذان بحجة أنه سنة فإنهم
يُقاتَلون عليه .
5. يُلاحظ
عدمُ تعرّض العلماء لتقسيم المندوب إليه باعتبار قوة الدليل الوارد به ، فلا
اختلاف بينهم في أن المندوب إليه قد يرد بدليل قطعي ، وقد يرد بدليل ظني [12]
.
6. لا
يلزم من ترك المندوب إيجاد بدل منه ، فلا قضاء على من فوّت المندوبات .
وبناءً على
ذلك
: لا تدخل الرخصُ الشرعيةُ المندوباتِ ، لأن الرخص وُضعت للتيسير عند المشقة ،
ونظراً لعدم لزوم فعل المندوب ، كما لا حرج في تركه أصلاً ، فلا عبرة للمشقة التي
يقترن بها الإتيان بالمندوب ، لأن الفاعل متطوع بعمله ، فإن شاء أتم مع المشقة ،
وإن شاء ترك من غير حرج .
وقد بيّن القاضي أبو بكر الباقلاني المندوب أحسن
بيان فقال بأنه : ( المأمور به الذي لا
يلحق الذم بتركه من حيث هو ترك له على وجه ما ، وما لا يلحق الذم بتركه من حيث هو
ترك له من غير حاجة إلى فعل بدل منه ) ، ثم قال بعد ذلك : ( وكل ندب فهذه حاله ) [13].
وبالجملة :
فالمندوب إليه أدنى درجة من الواجب ، مع أن كلاً منهما ورد الدليل به ، ويترتب على
فعله المدح والثواب ، ويترتب على ترك الواجب الذم والإثم دون المندوب .
ولطلب الفعل
غير الملزم طريقان :
1.
قولي : وهو كل طلب لا إلزام فيه ، إذ كثيراً ما يرد
الندب بصيغة الأمر المقترن بقرينة لفظية أو غير لفظية تصرف الأمر عن الوجوب إلى
الندب .
ومن أمثلة
ذلك : قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن
مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } ( النور33 ) ذلك أن
الأمر بمكاتبة السيد عبده إن طلب العبد ذلك مقيد في الآية " إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً " فهو إذن موكول إلى تقدير المالك ورأيه ،
وهذا يعني أن من حقه ترك الأمر إذا رأى الخير في تركه ، فهو للاستحباب وليس للوجوب
.
وكذلك قوله
تعالى : "
وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ
"
ليس للوجوب ، إذ يستحب للمالك أن يدفع من ماله وليس ذلك على وجه الحتم ، فهو حر في
التصرف بما يملك ، ولا يجبر على تصرف معين مالياً إلا إذا وجدت ضرورة تدعو إلى ذلك
.
ومن ذلك
أيضاً: قوله r : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج " [14]
الأمر في الحديث لا يدل على وجوب النكاح على كل مكلف مستطيع بل تُصرف عنه إلى
الندب [15]،
بقرينة ما عُرف بالتواتر عن النبي r أنه لم يُلزم كل مكلف بالنكاح ولو مـع قدرته عليه [16].
ثم إن
الزواج عقد معاملة ، ولهذا يصح من الكافر أيضاً ، فلا يتصف بالوجوب ، وإلا لوُصِف
نكاح الكفار بأنه واجب ، فهل هذا من المعقول ؟!
ولكن : يمكن
حمل الحديث على الوجوب في حق من يخشى على نفسه الوقوع في المحظور إن لم يتزوج ،
لأن حفظ النسل واجب ، وما لا يتم الواجب
إلا به فهو واجب .
وقد يكون
الندب بغير صيغة الأمر ، وإنما بالدعوة إلى الفعل بما يشعر بعدم الإلزام كبيان
الأفضلية ، أو الاستحباب أو الندب ، أو الطلب من غير إلزام كما هو في الأمثلة
التالية :
قوله r : " من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ، ومن اغتسل فالغسل أفضل
" [17]
، وفي هذا بيان أن الغسل يوم الجمعة أفضل من الوضوء ، وبذلك فإن قولهr
: " غسل الجمعة واجب على كل محتلم " [18]
، ليس فيه الوجوب بمعنى الإلزام ، وكذا قوله r : " إذا جاء أحدكم الجمعـة فليغتسـل " [19]
، فليس الأمر أمر إيجاب بل هو أمر ندب .
وكقولك
لغيرك : " يُندب لك أن تفعل كذا " ، وفيه بيان أن الطلبَ طلبُ ندبٍ لا
إلزام فيه .
2.
فعلي : وهو أن
يفعل رسول الله r شيئاً من الطاعات يتقرب به إلى ربه U دون أن يواظب عليه .
والمندوب يسمى أيضاً : السنة ، والنافلة ،
والمستحب ، والتطوع ، والإحسان ، والفضيلة [21]
، وكلها ألفاظ متقاربة في المعنى ، إذ تشير إلى أن معنى المندوب هو كونه راجحَ
الفعل دون إلزام به .
وسمي
مندوباً لأن الشارع دعا إليه ، وهو مستحب : لأن الشارع يحبه ، ونافلة : لأنه زائد
على الفرض ، ويزيد في الثواب . وتطوع : لأن فاعله يأتي به تبرعاً . وفضيلة : لأن
فعله أفضل من تركه .
[1] ) ابن منظور ، لسان العرب ، 1 / 754 ، الجوهري ، الصحاح
، 1 / 223 ، الفيروز آبادي ، القاموس المحيط ، 1/ 131 0
[2] ) هذا البيت لقريط بن أنيف العنبري ، أحد شعراء الحماسة من قصيدة
له يهجو بها قومه ، ويمدح بني مازن الذين استنقذوا إبله بعد أن أهمله قومه ، المرزوقي ،،شرح ديوان الحماسة ، 1 / 5 0
[3] ) الحديث بتمامه رواه البخاري ، الجامع الصحيح ـ كتاب
الإيمان ـ باب الجهاد من الإيمان 1 / 16 ، وأحمد في المسند 2 / 231 0
[4] ) الجزري ، النهاية في غريب الحديث والأثر ، 5 / 33 0
[6] ) الفيروزآبادي ، القاموس المحيط ، 1 / 138
، ابن منظور ، لسان العرب 1 / 753 – 755 ، ابن زكريا ، مقاييس اللغة
5 / 413 ، الجوهري ، تاج العروس 4 / 252 0
[7] ) الفراء ، العدة في أصول الفقه 1 / 1620
[8] ) الشنقيطي ، نشر البنود 1 /22 0
[9] ) الباقلاني ، التقريب والإرشاد 1 / 292 ، إمام الحرمين ، التلخيص 1 / 163 الصنعاني ، إجابة السائل شرح بغية
الآمل / 34 0
[10] ) مما يدل على تقدم الفرائض على غيرها قول الله تعالى في الحديث القدسي " وما تقرب إلي
عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه " ، رواه البخاري في الجامع الصحيح
، كتاب الدعوات ـ باب التواضع 8 / 131
قال ابن رجب الحنبلي :
تفرد به البخاري دون أصحاب السنن ، ابن رجب
، جامع العلوم والحكم / 337 0
[11] ) إمام الحرمين ، التلخيص 1 / 162 ،
[12] ) البخاري ، كشف الأسرار 2 / 552 ،
[13] ) الباقلاني ، التقريب والإرشاد 1 / 291 0
[14] ) الإمام البخاري الجامع
الصحيح ـ كتاب النكاح ـ باب قول النبي r من استطاع منكم الباءة فليتزوج 7 / 3 ،
ومسلم في صحيحه ـ كتاب
النكاح 9 / 172 0
والمباءة : المنزل ، فلما كان الزوج ينزل
بزوجته سُمي النكاح باءة لمجاز الملازمة 0 / ابن منظور ، لسان العرب 1 / 39
، 13 / 411 ، الزمخشري ، أساس البلاغة 1 / 53 ، الجزري ، النهاية في
غريب الحديث والأثر 1 / 160 0
واستطاعة النكاح : القدرة على مؤنة المهر
والنفقة ، ولا مانع من إرادة القدرة على الوطء ومؤنة التزويج ،
ابن دقيق العيد ، عمدة الأحكام /
24 ، الباجي ، المنتقى ، / بشرح
نيل الأوطار 6 / 228 0
[15] ) ابن قدامة ، المغني 7 / 335 0
[16] ) ذهب ابن حزم الظاهري إلى أن النكاح فرض عين ، ومن تركه مع
القدرة على الوطء والإنفاق فإنه يأثم 0
ابن حزم ، المحلى 9 / 3 ، السمرقندي ، تحفة الفقهاء 2 / 117 ، ابن قدامة ، المغني 7 / 334 ، ابن الهمام ، فتح القدير 3 / 188 ،
[17] ) أبو داود ، سنن أبي داود ـ كتاب الطهارة ـ باب الرخصة في
ترك الغسل يوم الجمعة 1 / 86 ، الترمذي ، سنن الترمذي ـ كتاب الجمعة ـ باب الوضوء يوم الجمعة 3 / 6 ، (
صحيح ) 0
قوله " فبها
ونعمت " : أي فبالسنة أخذ ، ونعمت السنة أو نعمت الخلة أو الخصلة ، / النووي ، المجموع ، 4 / 407 0
[18] ) الإمام البخاري ، الجامع الصحيح ، كتاب الجمعة ، باب فضل
الغسل يوم الجمعة 3 / 6 ، الإمام مسلم ،
كتاب الجمعة ، صحيح مسلم بشرح النووي 6 / 132 0
[19] ) الإمام البخاري ، الجامع الصحيح ـ كتاب الجمعة ـ باب فضل
الغسل يوم الجمعة 2 / 2 ، والإمام مسلم ،
كتاب الجمعة ، صحيح مسلم بشرح النووي 6 / 130 0
[20] ) النسائي ، السنن الكبرى 2 / 89 ، ابن ماجة ، سنن ابن
ماجة 4 / 223 0 ( ضعيف )
[21] ) ابن الحاجب ، مختصر ابن الحاجب / السبكي ، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب
، 1 / 49 ،
Post a Comment