تعريف الندب لغة واصطلاحا
تعريف الندب ،   وفيه فرعان :
 الفرع الأول : الندب لغة :
الندب في اللغة [1]: مصدر من الفعل نَدَبَ . وهو : الدعاء إلى فعل ، ومنه قول الشاعر[2] :
لا يسألون أخاهم حين يندبهم               في النائبات على ما قال برهاناً
ومنه الحديث : " انتدب الله لمن يخرج في سبيله  " [3] أي : أجاب له طلب مغفرة ذنوبه[4] . فالندب : الدعاء إلى أمر مهم ، كأن يندب إنسان قوماً إلى أمر أو حرب أو معونة : أي يدعوهم إليه ، فينتدبون له ، أي يجيبون ويسارعون . وندب القوم إلى الأمر يندبهم ندباً : دعاهم وحثهم ، والمندوب هو المطلوب [5] .  
 ويأتي الندب أيضاً لثلاثة معانٍ [6] : إحداها : الأثر ، والثاني : الخطر ، والثالث : الدلالة على خفة في شيء . والمعنى الثالث هو المناسب لهذا المقام لما فيه من الخفة . إذ يقال رجل ندب خفيف في الحاجة ، سريع ظريف يجيب .
والمندوب إليه : المدعُوُّ إليه ، ثم حذف لفظ ( إليه ) تخفيفاً ، وبذلك يسمى مندوباً .

الفرع الثاني : الندب اصطلاحاً :
أما في الشـرع : عرّفه القاضي أبو يعلى الفراء بأنه  : " اقتضاء الفعل بالقول ممن هو دونه على وجه يتضمن التخيير بين الفعل والترك " [7].
وقال الشنقيطي في حدّه  : " الخطاب المقتضي من المكلف أو الصبي إيجاد الفعل اقتضاء غير جازم بأن جوّز تركه " [8].
ويكمننا تعريفه بأنه : خطاب الشـارع المتعلق بأفعال المكلفين بطلب الفعـل على غير وجه الحتم واللزوم .
والمندوب : ما طلب الشارع فعله طلباً غير جازم .
وإتيان المندوب أولى من تركه ، وهو فعل مقتضًى شرعاً من غير لوم على تركه ، وفي فعله ثواب ، وفاعله يستحق المدح ، ولا بأس بتركه دون ترتب مُساءلة [9].
ويُلاحظ في تعريف المندوب عند الأصوليين بعض الأمور منها :
1.    اتفاقهم على أن المندوب مطلوب ٌ فعلُه ، وقد ورد به الدليل ، وبذلك فهو يتفق مع الواجب في أن كلاً منهما مطلوبٌ إيجادُه .
2.    لا خلاف في أن الطلب في الندب غير حتمي ، فهو في هذا يختلف عن الإيجاب ، حيث إن الطلب فيه حتمي .
3.    يترتب على فعل المندوب المدحُ والثوابُ ، فهو يلتقي مع الواجب في ما يترتب على الفعل ، ولكن أجر فعل الواجب أكبر من فعل المندوب ، إذ الفرائض أحب الأعمال إلى الله تعالى [10] .
4.    لا يترتب على ترك المندوب إثم ، وهو مما لا يوجد فيه بين العلماء خلاف ، إلا أن يُنكِرَ أصل ندب الفعل من غير دليل أو تأويل ، ولو ترك المندوب إليه قاصداً المخالفة فتلحقه اللائمة لعصيانه لا لترك المندوب إليه [11] . فترك المندوب استهانة به كمن يواظب على ترك السنن الرواتب فقد يلحقه إثم لهذا الترك ، وكذا من يترك بعض السنن  التي هي من شعائر الدين : كما لو اتفق أهل بلد على ترك الأذان بحجة أنه سنة فإنهم يُقاتَلون عليه .
5.    يُلاحظ عدمُ تعرّض العلماء لتقسيم المندوب إليه باعتبار قوة الدليل الوارد به ، فلا اختلاف بينهم في أن المندوب إليه قد يرد بدليل قطعي ، وقد يرد بدليل ظني [12] .
6.    لا يلزم من ترك المندوب إيجاد بدل منه ، فلا قضاء على من فوّت المندوبات .
وبناءً على ذلك : لا تدخل الرخصُ الشرعيةُ المندوباتِ ، لأن الرخص وُضعت للتيسير عند المشقة ، ونظراً لعدم لزوم فعل المندوب ، كما لا حرج في تركه أصلاً ، فلا عبرة للمشقة التي يقترن بها الإتيان بالمندوب ، لأن الفاعل متطوع بعمله ، فإن شاء أتم مع المشقة ، وإن شاء ترك من غير حرج .
 وقد بيّن القاضي أبو بكر الباقلاني المندوب أحسن بيان فقال بأنه  : ( المأمور به الذي لا يلحق الذم بتركه من حيث هو ترك له على وجه ما ، وما لا يلحق الذم بتركه من حيث هو ترك له من غير حاجة إلى فعل بدل منه ) ، ثم قال بعد ذلك : ( وكل ندب فهذه حاله ) [13].
وبالجملة : فالمندوب إليه أدنى درجة من الواجب ، مع أن كلاً منهما ورد الدليل به ، ويترتب على فعله المدح والثواب ، ويترتب على ترك الواجب الذم والإثم دون المندوب .

ولطلب الفعل غير الملزم طريقان :
1.                قولي :  وهو كل طلب لا إلزام فيه ، إذ كثيراً ما يرد الندب بصيغة الأمر المقترن بقرينة لفظية أو غير لفظية تصرف الأمر عن الوجوب إلى الندب .
ومن أمثلة ذلك : قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ  } (  النور33 ) ذلك أن الأمر بمكاتبة السيد عبده إن طلب العبد ذلك مقيد في الآية " إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً " فهو إذن موكول إلى تقدير المالك ورأيه ، وهذا يعني أن من حقه ترك الأمر إذا رأى الخير في تركه ، فهو للاستحباب وليس للوجوب .
وكذلك قوله تعالى : " وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ  " ليس للوجوب ، إذ يستحب للمالك أن يدفع من ماله وليس ذلك على وجه الحتم ، فهو حر في التصرف بما يملك ، ولا يجبر على تصرف معين مالياً إلا إذا وجدت ضرورة تدعو إلى ذلك .
ومن ذلك أيضاً: قوله r : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج " [14] الأمر في الحديث لا يدل على وجوب النكاح على كل مكلف مستطيع بل تُصرف عنه إلى الندب [15]، بقرينة ما عُرف بالتواتر عن النبي r أنه لم يُلزم كل مكلف بالنكاح ولو مـع قدرته عليه [16].
ثم إن الزواج عقد معاملة ، ولهذا يصح من الكافر أيضاً ، فلا يتصف بالوجوب ، وإلا لوُصِف نكاح الكفار بأنه واجب ، فهل هذا من المعقول ؟!
ولكن : يمكن حمل الحديث على الوجوب في حق من يخشى على نفسه الوقوع في المحظور إن لم يتزوج ، لأن حفظ النسل واجب ،  وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
وقد يكون الندب بغير صيغة الأمر ، وإنما بالدعوة إلى الفعل بما يشعر بعدم الإلزام كبيان الأفضلية ، أو الاستحباب أو الندب ، أو الطلب من غير إلزام كما هو في الأمثلة التالية :
قوله r : " من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ، ومن اغتسل فالغسل أفضل " [17] ، وفي هذا بيان أن الغسل يوم الجمعة أفضل من الوضوء ، وبذلك فإن قولهr  : " غسل الجمعة واجب على كل محتلم " [18] ، ليس فيه الوجوب بمعنى الإلزام ، وكذا قوله r : " إذا جاء أحدكم الجمعـة فليغتسـل " [19] ، فليس الأمر أمر إيجاب بل هو أمر ندب .
 وكذا قوله r  بشأن رمضان : " وسننت لكم قيامه " [20] .
وكقولك لغيرك : " يُندب لك أن تفعل كذا " ، وفيه بيان أن الطلبَ طلبُ ندبٍ لا إلزام فيه .

2.                فعلي : وهو أن يفعل رسول الله r شيئاً من الطاعات يتقرب به إلى ربه U دون أن يواظب عليه .
      والمندوب يسمى أيضاً : السنة ، والنافلة ، والمستحب ، والتطوع ، والإحسان ، والفضيلة [21] ، وكلها ألفاظ متقاربة في المعنى ، إذ تشير إلى أن معنى المندوب هو كونه راجحَ الفعل دون إلزام به .
وسمي مندوباً لأن الشارع دعا إليه ، وهو مستحب : لأن الشارع يحبه ، ونافلة : لأنه زائد على الفرض ، ويزيد في الثواب . وتطوع : لأن فاعله يأتي به تبرعاً . وفضيلة : لأن فعله أفضل من تركه .


[1] ) ابن منظور ، لسان العرب ، 1 / 754 ، الجوهري ، الصحاح ، 1 / 223 ، الفيروز آبادي ، القاموس المحيط ، 1/ 131 0
[2] ) هذا البيت لقريط بن أنيف العنبري ، أحد شعراء الحماسة من قصيدة له يهجو بها قومه ، ويمدح بني مازن الذين استنقذوا إبله بعد أن أهمله قومه ،  المرزوقي ،،شرح ديوان الحماسة ، 1 / 5  0
[3] ) الحديث بتمامه رواه البخاري ، الجامع الصحيح ـ كتاب الإيمان ـ باب الجهاد من الإيمان 1 / 16 ، وأحمد في المسند 2 / 231 0
[4] ) الجزري ، النهاية في غريب الحديث والأثر ،  5 / 33  0
[5] ) المرجع نفسه 5 / 33 0
[6] ) الفيروزآبادي ، القاموس المحيط ، 1 / 138 ، ابن منظور ، لسان العرب 1 / 753 – 755 ، ابن زكريا ، مقاييس اللغة 5 / 413 ، الجوهري ، تاج العروس 4 / 252 0
[7] ) الفراء ، العدة في أصول الفقه  1 / 1620
[8] ) الشنقيطي ، نشر البنود  1 /22 0
[9] ) الباقلاني ، التقريب والإرشاد  1 / 292 ، إمام الحرمين ، التلخيص  1 / 163 الصنعاني ، إجابة السائل شرح بغية الآمل  / 34 0
[10] ) مما يدل على تقدم الفرائض على غيرها قول الله  تعالى في الحديث القدسي " وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه " ، رواه البخاري في الجامع الصحيح ، كتاب الدعوات ـ باب التواضع 8 / 131
قال ابن رجب الحنبلي : تفرد به البخاري  دون أصحاب السنن ، ابن رجب ، جامع العلوم والحكم / 337 0
[11] ) إمام الحرمين ، التلخيص 1 / 162  ،
[12] ) البخاري ، كشف الأسرار 2 / 552 ،
[13] ) الباقلاني ، التقريب والإرشاد  1 / 291  0
[14] ) الإمام البخاري  الجامع الصحيح ـ كتاب النكاح ـ باب قول النبي r من استطاع منكم الباءة فليتزوج 7 / 3  ،    ومسلم في  صحيحه ـ كتاب النكاح 9 / 172 0
       والمباءة : المنزل ، فلما كان الزوج ينزل بزوجته سُمي النكاح باءة لمجاز الملازمة 0 / ابن منظور ، لسان العرب 1 / 39 ، 13 / 411 ، الزمخشري ، أساس البلاغة 1 / 53 ، الجزري ، النهاية في غريب الحديث والأثر 1 / 160 0
       واستطاعة النكاح : القدرة على مؤنة المهر والنفقة ، ولا مانع من إرادة القدرة على الوطء ومؤنة التزويج  ،
       ابن دقيق العيد ، عمدة الأحكام / 24  ، الباجي ، المنتقى ، / بشرح نيل الأوطار 6 / 228 0
[15] ) ابن قدامة ، المغني  7 / 335 0
[16] ) ذهب ابن حزم الظاهري إلى أن النكاح فرض عين ، ومن تركه مع القدرة على الوطء والإنفاق فإنه يأثم 0
 ابن حزم ، المحلى  9 / 3 ، السمرقندي ، تحفة الفقهاء  2 / 117 ، ابن قدامة ، المغني  7 / 334 ، ابن الهمام ، فتح القدير  3 / 188 ،
[17] ) أبو داود ، سنن أبي داود ـ كتاب الطهارة ـ باب الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة 1 / 86 ، الترمذي ، سنن الترمذي ـ  كتاب الجمعة ـ باب الوضوء يوم الجمعة 3 / 6 ، ( صحيح ) 0
قوله " فبها ونعمت " : أي فبالسنة أخذ ، ونعمت السنة أو نعمت الخلة أو الخصلة ، /  النووي ، المجموع ، 4 / 407  0
[18] ) الإمام البخاري ، الجامع الصحيح ، كتاب الجمعة ، باب فضل الغسل يوم الجمعة 3 / 6  ، الإمام مسلم ، كتاب الجمعة ، صحيح مسلم بشرح النووي 6 / 132 0
[19] ) الإمام البخاري ، الجامع الصحيح ـ كتاب الجمعة ـ باب فضل الغسل يوم الجمعة 2 / 2  ، والإمام مسلم ، كتاب الجمعة ، صحيح مسلم بشرح النووي  6 / 130  0
[20] ) النسائي ، السنن الكبرى 2 / 89 ، ابن ماجة ، سنن ابن ماجة  4 / 223  0 ( ضعيف )
[21] ) ابن الحاجب ، مختصر ابن الحاجب  / السبكي ، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب ، 1 / 49 ،

Post a Comment

Previous Post Next Post