حكم المندوب وأنواعه :
الفرع الأول : حكم المندوب :
نظراً لأن الشارع الحكيم طلب منا فعل المن دوب ، ولم يحتّم علينا فعله ، فإن الفاعل  يثاب على المندوب ، ولا يعاقب على تركـه ، فالإتيان به أفضــل من تركه وأولى .
   ومما تجدر ملاحظته : أن المندوب قد يكون خادماً للواجب أو حمى له أو ذريعة للمداومة عليه ، فهو كالحارس للواجبات ، والقيامُ بها – المندوبات – يستدعي أداء الفرض ، فمن أدى النوافل وحافظ عليها لا يترك الفرائض ، ومن قصّر في أداء النوافل كان عرضة لأن يقصر في أداء الواجب .
يقول  الشاطبي  : ( المندوب إذا اعتبرته اعتباراً أعم وجدته خادماً للواجب لأنه إما مقدمة له أو تذكار به سواء أكان من جنسه واجب أم لا . فالذي من جنسه واجب كنوافل الصلاة مع فرائضها ، ونوافل الصيام والصدقة والحج . والذي من غير جنسه كطهارة الخبث في الجسد والثوب والمصلى – وهذه مندوبات في مذهب مالك – وأخذ الزينة ، وكتعجيل الإفطار ، وتأخير السحور، وكف اللسان عما لا يعني مع الصيام ) [1].
  وهذه الأنواع وإن كانت من غير جنس الفرائض التي تجاورها لكنها مقوية ومؤكدة لها .
وثمة أمر آخر نبه إليه الشاطبي وهو : أن المندوب غير لازم بالجزء ، ولكنه لازم بالكل . أي إن السُّنة التي لازمها النبي r أو التي فعلها ولم يلازمها أحياناً يجوز للإنسان أن يتركها في بعض الأحوال أو في أكثرها ، ولكن لا يجوز أن يتركها جملة .
فالأذان : لا يجوز أن يُترك جملة ، ولا يجوز لأهل بلد الاتفاق على تركه وإلا  حُملوا عليه حملاً [2] . كما لا يجوز لشخص ترك الجماعة تركاً كاملاً .
وكذا النكاح فإنه سنة بالجزء ، ولكن لا يجوز أن يتركه الجماعة وإلا فنيت الأمة .
فالمندوب فعله وإن كان مندوباً بالجزء إلا أنه واجب بالكل كالأذان ، والجماعة ، وصدقة التطوع ، والنكاح ، والوتر ، وسنة الفجر ، وسائر النوافل الرواتب [3] .
وهذا النظر من الإمام الشاطبي نظر سليم يدل على تماسك أوامر الشارع كلها .

الفرع الثاني : أنواع المندوب :
ليس المندوب شيئاً واحداً ، بل هو مراتب [4] :
‌أ.                   ما يعتبر مكملاً للواجبات الدينية : كالأذان للصلوات الخمس ، وما واظب عليه رسول الله r فلم يتركه إلا نادراً ليدل على أنه ليس واجباً ، ومن ذلك : صلاة ركعتين قبـل فريضـة الفجر، وسـنة الظهر، والمغـرب ، والمضمضة في الوضوء.. وغير ذلك .
وهذا النوع يعرف باسم السنة المؤكدة أو سنة الهدى ، وتاركه يستحق اللوم والعتاب ، وفاعله يثاب ، فإن كان من شعائر الإسلام : كالأذان والجماعة فلا يجوز التهاون فيه ، ولهذا إذا تواطأ أهل بلد على ترك الأذان والجماعة حملوا عليه قسراً .
‌ب.               ما كان من القربات وفعله رسول الله r أحياناً وتركه أحياناً : كالتصدق على الفقراء زيادة على الزكاة ، وصوم الاثنين والخميس مثلاً ، وسنة العصر ، وصلاة أربع ركعات قبل الظهر.  وهذا النوع يعرف بالسنة غير المؤكدة ، وهو السنة الزائدة أو النافلة . وتارك هذا النوع لا يُلام ولا يعاتب ، وفاعله يثاب .
‌ج.               ما كان من شؤون رسول الله r العادية التي تقـع منه بمقتضى إنسـانيته : كآداب الأكـل والشـرب والنوم والمشي ونحوها .  وهذا النوع يسمى الفضيلة والأدب وسنة الزوائد ، فالاقتداء به r في هذه الأمور مستحب ، ويدل على تعلق المقتدي به – r – وشدة حب الفاعل له ، ولكن تارك هذه الأمور لا يستحق لوماً ولا عتاباً ، ولا يعتبر مسيئاً إلا أن يقصد بتركه مخالفة السنة والآداب التي كان عليها رسول الله  r. أما فاعل هذه المندوبات فهو يستحق الثواب إذا قصد بفعله الاقتداء برسول الله r .

المطلب الثالث : هل يلزم النفل بالشروع فيه ؟
إذا شرع العبد بفعل مندوب فهل له الخيار في ترك الفعل أم يجب عليه استكماله ؟ وهل يُجبر على الاستمرار فيه ؟ وإن تركه هل يلزمه قضاء ؟
للعلماء في هذه المسألة قولان :
الأول:  لا يلزم النفل بالشروع فيه : وهو مذهب الشافعي [5] ، وأحمد [6] : فالفاعل للمندوب إن ترك إكماله – أي لم يتمه – بعد الشروع فيه فلا إثم عليه ولا قضاء .
وقد استدلوا لذلك بـِ :
1.                إن حكم المندوب هو التخيير بين الفعل والترك مع ترجيح جانب الفعل ، وبذلك له أن يترك فعله ابتداءً ، فكذلك بعد الشروع فيه هو مخير بين إتمام ما تبقى منه وبين تركه ،  تحقيقاً لمعنى النفلية ، ولا ينقلب النفـل فرضـاً ، لأن آخره من جنس أوله  [7]. وإذا كان العبـد لا يأثم بترك الكل ، فإنه لا يأثم بترك الجزء .
2.                 قياس الصلاة والصيام على الصدقة : فمن أخرج من ماله عشرة دراهم ليتصدق بها متنفلاً ، فتصدق بخمسة منها فهو بالخيار فيما بقي من العشرة ، فكذا لو شرع في صلاة أربع ركعات نفلاً فصلى ركعتين كان بالخيار في الركعتين الأخريين [8] .
3.                قوله r لأم هانئ وكانت صائمة فناولها شراباً فشربت منه ثم ناولها فشربت منه ،  فقالت : إني أذنبت فاستغفر لي . قال : " وما ذاك " ؟  قالت : كنت صـائمة فأفطرت . فقال : " أكنت تقضين شيئاً ؟ " قالت : لا . قال : " فلا يضرك "  ، وفي رواية " فلا يضرك إن كان تطوعاً  " [9].
4.                ومنها قوله r : " الصـائم المتطـوع أمير نفسـه إن شـاء صـام وإن شاء أفطر " ،  وفي رواية أمين نفسه " [10] .
5.                ويمكن الاستدلال لهم بأنه لو قطع النفل قبل إتمامه ثم عاود الشروع فيه لا يسمى فعله إعادة ، ولا يسمى قضاءً ، وإنما يسمى أداءً ، ولو كان الإتمام واجباً لكان فعله بعد ذلك قضاءً لواجب تركه ، وهو غير مستقيم .
ومع أن أصحاب هذا القول لا يرون وجوب إتمام النفل إذا شرع فيه ، ولا يلزم قضاؤه ، إلا أنهم يرون أن الاستمرار فيه ، وإتمامه أكمل وأفضل .


الثاني: يلزم النفل بالشروع فيه : وهو مذهب أبي حنيفة[11] ، وبه قال الحسن البصري ، ومكحول
، والنخعي [12] ، ومالك [13]، وهو رواية عن أحمد [14] . فهم يرون أن المندوب يصبح لازماً بالشروع فيه ، ويجب إتمامه ، وإن لم يتمه فقد وجب عليه قضاؤه ، وعدم وجوب أدائه أصلاً لا يستلزم عدم وجوب إتمامه بعد الشروع فيه .
وحجة أصحاب هذا القول :
1.                إذا شرع المكلف في المندوب صار عبادة وحقاً لله تعالى ، فوجبت صيانته عن الإفساد ، لأن التعرض لحق الغير بالإفساد حرام [15] ، وذلك يكون بإلزام المكلف بالباقي أو قضائه بعد ذلك احتياطاً في العبادات .
2.                قياس الشروع بالمندوب على النذر، وذلك أن الناذر قبل أن ينذر مخير بين الالتزام وعدمه ، فلما ألزم نفسه بالنذر صار النذر واجباً ، وكذا المندوب [16].
3.                نهى الشارع عن إبطال الأعمال مطلقاً ، وقد دلّ على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } (  محمد33 ) ، ولا شك أن إبطال النفل بعد الشروع فيه إبطال للعمل ، وهو منهي عنه ، وبذا يكون الإتمام واجباً [17] .
4.                واستدلوا بما رُوي عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أنا وحفصة صائمتين ، فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه ، فجاء رسول الله r فبدرتني إليه حفصة وكانت ابنة أبيها فقالت : يا رسول الله : إنا كنا صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه ، فقال : " اقضيا يوماً مكانه " [18] ، وهو يدل على لزوم القضاء .

5.                واستدلوا أيضاً بالقياس على حج التطوع وعمرته [19] ، فإنهما يلزمان بالشروع بالإجماع [20] . فمن دخل في حج أو عمرة ثم أفسد ما دخل فيه فإن عليه المضي في فاسدها ، ويقضيها في عام آخر ، ولا خلاف في هذا ، فكان إتمام صحيح تطوعهما أولى بوجوب المضي فيه [21] .
  واعتبر نظام الدين الأنصاري هذا الدليل أجود ما استدل به الحنفية ومن وافقهم في هذا المقام [22].
وقد رد مخالفوهم على استدلالهم :   بأن المكلف إذا كان مخيراً فيما لم يأت به فله ترك ما خير فيه بعد الشروع تحقيقاً لمعنى التخيير.
وأما الآية فهي عامة ، وتنصرف للأعمال الواجبة جمعاً بين الأدلة . قال ابن جرير الطبري في تفسيرها  : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول في أمرهما ، ونهيهما ، ولا تُبطلوا بمعصيتكم إياهما ، وكفرِكم بربكم ثوابَ أعمالكم ، فإن الكفر بالله يحبط السالف من العمل الصالح ) [23] .
وقال ابن عبد البر: ( من احتج في هذا بقوله تعالى : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ }  فهو جاهل بأقوال أهل العلم ، فإن الأكثر على أن المراد بذلك النهي عن الرياء ، ولا تبطلوا أعمالكم بالرياء ، بل أخلصوها لله ) [24].
وأما قياسهم : فهو قياس مع الفارق : لأن الناذر التزم الوجوب قولا ً، وألزم نفسه بالنذر لولايته عليها ، وأما مـن أدى بعـض المندوب فقـد أداه بنية النفل وليـس بنية الوجوب ، والنفل لا ينقلب واجباً .
 واعترضوا على الحديث بأنه ضعيف [25] ، وقال ابن رشد بأنه غير مسند [26].
 ولو صح حديث عائشة : فإنه يمكن الجمع بين الخبرين بأنهما كانتا صائمتين قضاءً عما وجب عليهما ، فلما أفسدتاه أمرهما r بالقضاء ، إذ ليس في الخبر ما يدل على أنهما كانتا صائمتين نافلة .
 وأما قياسهم لزوم إتمام العبادات على الحج والعمرة فهو مع الفارق أيضاً ، إذ تجب الكفارة في إفساد حج التطوع ، بينما لا كفارة في تعمّد الإفطار في صوم النفل .
 وكذا يجيز الحنفية انعقاد النية في الصوم بالنهار[27] ـ أي بعد الشروع في الصوم ـ خلافاً للحج فإن النية فيه تكون قبل الشروع فيه .
الثالث : إن قطعه لعذر لم تجب إعادته ، وإن لم يكن لعذر فعليه الإعادة :
وهذا القول منسوب إلى الإمام مالك [28] ، وهو يقتضي لزوم القضاء إن أفطر عمداً حراماً ، وإن كان عمداً غير حرام فلا قضاء فيه ، كأن يفطر نسياناً ، أو مكرهاً ، أو غلبة .
وهذا القول يقف موقفاً وسطاً بين الشافعي وأحمد من جهة ، وبين أبي حنيفة من جهة أخرى .
والراجح : هو ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة ومن كان معهم من عدم لزوم إتمام النافلة بعد الشروع فيها لقوة استدلالهم وبخاصة حديث أم هانيء الذي ينص صراحة في الموضوع المتنازع فيه .


[1] ) الشاطبي ، الموافقات 1 / 132 0
[2] الشاطبي ، الموافقات 1 / 133 .
[3] ) المرجع نفسه ، 1 / 132 0
[4] ) البخاري ، كشف الأسرار 2/563 ـ 565 ، الزحيلي ، أصول الفقه 1 / 76 – 77 0
[5] ) الرافعي ، فتح العزيز شرح الوجيز  6 / 464 ، النووي ، المجموع  6 / 392 ، وروضة الطالبين  1 / 428 ،
    الزنجاني ، تخريج الفروع على الأصول / 138 ، الرازي ، المحصول 2 / 210 – 211 0
[6] ) ابن قدامة ، المغني 4 / 412 ، والكافي في فقه الإمام أحمد 1 / 364 ، ابن النجار ، شرح الكوكب المنير 1 / 407 ،  الحجاوي ، مختصر المقنع  / 96 ، آل تيمية ، المسودة / 60  0
[7] ) ابن النجار ، شرح الكوكب المنير 1 / 407 ، البخاري ، كشف الأسرار 1 / 507 ، السرخسي ، المحرر 1 / 84 0  النووي ،  شرح النووي على صحيح مسلم  8 / 34  0
[8] ) الإمام مسلم ، صحيح مسلم / شرح النووي 8 / 34 0
[9] ) ابن العربي ، عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي 3 / 355 ، حديث رقم 727 ، صحيح سنن أبي داود 7 / 215 رقم 2120 ، الألباني ، مشكاة المصابيح 1 / 470 ، رقم 2079 . ( صحيح ) 0
[10] ) أبو داود ، سنن أبي داود 2 / 442 ، الحاكم ، المستدرك على الصحيحين 1 / 439 ، الدارمي ، سنن الدارمي 2 / 16  ، ( صحيح ) 0
[11] ) السرخسي ، المبسوط 3 / 68 ، والمحرر 1 / 84 ، الكاساني ، بدائع الصنائع 2 / 10 ، المنبجي ،  اللباب في الجمع بين السنة  والكتاب ، 1 / 281 ، ابن الهمام ، فتح القدير 2، / 360 ، المرغيناني ، الهداية ، 1 / 68 ، السمرقندي ، طريقة الخلاف بين الأسلاف / 78 0
[12] ) أبو الفرج بن قدامة ، الشرح الكبير 3 / 111 ، النووي ، شرح صحيح مسلم 8 / 34 0
[13] ) ابن العربي ، أحكام القرآن 4 / 134 ، القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن 16 / 255 ، المباركفوري ، تحفة الأحوذي  3 / 359 ، ابن رشد ، بداية المجتهد 1 /311 ، الخرشي ، الخرشي على مختصر سيدي خليل 2 / 258 – 260 0
[14] ) ابن قدامة ، المغني 3 / 89 ، والكافي 1 / 364 0
[15] ) منلا خسرو ، مرآة الأصول شرح مرقاة الوصول 2 / 393 ، النسفي ، المنار 1 / 459 ، السرخسي ، المحرر 1 / 84 0
[16] ) البزدوي ، أصول البزدوي / وكشف الأسرار / 2 / 572  0
[17] ) الكاساني ، بدائع الصنائع 1 / 290 ، السمرقندي ، طريقة الخلاف بين الأسلاف / 78 ، التفتازاني ، التلويح  2 / 125 0
[18] ) رواه الترمذي ، عارضة الأحوذي 3 / 358  0( ضعبف ) ضعفه الألباني ، ضعيف أبي داود / 423 ، وضعيف سنن الترمذي 2 / 235
[19] ) السرخسي ، المحرر 1 / 84 ، النسفي ، المنار 1 / 459 ، البخاري ، كشف الأسرار 2 / 570  0
[20] ) النووي ، المجموع  6 / 392 ، ابن رشد ، بداية المجتهد 1 / 312  0
[21] ) النووي ، المجموع 6 / 393  ، ابن النجار ، شرح الكوكب المنير 1 / 410  0
[22] ) الأنصاري ، فواتح الرحموت 1 / 116  0
[23] ) الطبري ، جامع البيان في تأويل آي القرآن  13 / 26 / 62 0
[24] ) المباركفوري ، تحفة الأحوذي 3 / 360 ، الزركشي ، البحر المحيط 1 / 489 ، ابن الهمام ، فتح القدير 5 / 41 0
[25] ) ابن حجر ، فتح الباري شرح الجامع الصحيح 5 / 115 ، النووي ، المجموع 6 / 397  0
[26] ) ابن رشد ، بداية المجتهد  1 / 312  0
[27] ) المرغيناني ، الهداية 1 / 119 ، السمرقندي ، تحفة الفقهاء 1 / 349  0
[28] ) ابن رشد ، بداية المجتهد 1 / 311 ، الخرشي ، الخرشي على مختصر سيدي خليل 2 / 260 ، الدردير / الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك 1 / 702  0

Post a Comment

Previous Post Next Post