الاستفهام:
     إن المراد بالاستفهام الاستفسار، وهو " طلب الفهم والعلم بالشيء وهو من وسائط الربط. والقدرة على التساؤل دليل على تمتع المبدع بمخزون معرفي، وقدرة على تقدير الأشياء الغائبة المراد كشف غموضها، وتسليط الدلالة المفارقة التي لا تتضح إلا بالسؤال الذي يشكل حركة صادمة للمتلقي، تنقله من حالة الاطمئنان المعرفي لحالة القلق والشك، وهذا يعرف بالاستفهام الحقيقي حيث يكون لطلب الفهم لما ليس مفهوماً، أو طلب حصول الصورة الذهنية"([1])
     ولقد استخدمت الشاعرات الاستفهام بأدواته المخصوصة جميعها: الهمزة، هل، ما، من، أي، ماذا، لماذا، كم، كيف، أين، متى، أيان. تقول (ريتا عودة):
أحبك
وأدرك كيف
وأعرف لم
وإلى متى
وماذا وأين
وأرى
في حضورك
كل علامات الدهشة                  ( ريتا عودة، ومن لا يعرف ريتا!!!، الأبدية لحظة حب، ص70)
     وركزت الشاعرات الفلسطينيات، عينة البحث على البنية الاستفهامية، واتخذن منها تقنية للتشكيل اللغوي.
تتساءل رجاء أبو غزالة:
هل يعجبك سيجاري المعطر؟( رجاء أبو غزالة، الهروب الدائري، حكاية إنسان عادي جدا، ص14)
     ومن صيغ الاستفهام التي تشيع في الشعر المعاصر (لماذا) ويرجع بعض أسباب، شيوعها إلي اضطراب الرؤى واختلال المفاهيم، والإحساس بالغربة، والدأب في البحث عن المثال كما يتضح من المثال التالي:
تريدني؟
تريدني جنوناً يدوي!
...
لماذا ؟ لماذا؟
ويبقى التساؤل!                             ( فاتنة الغرة، رؤى الياسمين، بحث عن جواب، ص 28، 30)         
     فالشاعرة لا تدرك سر التوقف. هذا فضلاً عن إحساسها بالغربة عما حولها، وتتساءل (فاتنة الغرة) في نصها (يا أنت)( لماذا؟):
لماذا؟!!                                                  ( فاتنة الغرة،  ما زال بحر بيننا، يا أنت، ص21)
     أما (عايدة حسنين) فلها قصيدة بعنوان لماذا([2]) وكذلك (لروز شوملي) قصيدة بالعنوان نفسه، و(لمنى عادل ظاهر) قصيدة بعنوان : ( لماذا نزرع الورد؟!)([3]). وأمام كل ما تعانيه المرأة تجد نفسها تتساءل متعجبة:   
أعودُ أتساءَلُ:
لماذا أكل آدم
من الثمرة المحرمة؟!             ( منى عادل ظاهر، ليلكيات، حينما مست حواء شجرة المعرفة، ص80)
     وتتساءل بعض الشاعرت عبر أدة الاستفهام (ماذا)،تقول (فاتنة الغرة):
ماذا تراك غرست بين أصابعـي       زهراً وعطراً أم مقاطع من نغم
ماذا تراك تركت لي خلف المدى       غير احتراق في حروف لم تنـم                              
                                             ( فاتنة الغرة،  ما زال بحر بيننا، ترنيمة عاشقة، ص110)
     ويبدو واضحاً هنا أن الأسئلة ليست لطلب المعرفة فأسئلة الشاعرة لا تطلب جواباً محدداً فهي تشكيل جمالي يعبر عن القلق والألم وهنا تتجلى مفارقة النص الأساسية.
     ولقد لجأت (ريتا عودة) في أجزاء متعددة من نصوصها إلى البنية الاستفهامية ولكنها في النص التالي تسأل عن الوطن الغالي الذي أطلقت عليه (ريتا)، وتلجأ إلى فن الفوازير في عرض
الحذف:
     أسلوب بلاغي قديم، لجأ إليه الشاعر المعاصر استغلالاً لإمكانيته الإيحائية والحذف "أحد الظواهر النحوية الوظيفية، التي تجمع ما بين السمة النحوية والسمة البلاغية. وقد تم الاحتفاء به في المدونات التراثية، باعتباره أحد المؤثرات الإيجابية على المعنى، لما يحدثه من حراك داخل النسق اللغوي. فهو يمثل قيمة جمالية مضافة داخل النص، كان النقاد القدامى يستشعرونها، دون أن يتمكنوا من توصيفها- يقول عبد العزيز موافي- ونحن نرى أن الإحساس بتلك الظاهرة هو إحساس نفسي بالأساس، أما تأثيرها الجمالي فيعتمد على مبدأ كسر التوقع فيما يتعلق بمسار المعنى، مما يمنح الشعور لذة خفية، تحدث نوعاً من الموسيقى الداخلية في داخله"([4]).
     وقد اهتم (عبد القاهر الجرجاني) بالحذف وما يحدثه من انحراف لغوي، وما يحدثه من تأثير جمالي وهو يقرر أن الحذف  " هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ عجيب الأمر، شبيه بالسحر. فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإنابة أزيد للإبانة وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تبن"([5]).
     وللحذف وظيفة مزدوجة، إنه " ينشط الإيحاء ويقويه من ناحية وينشط خيال المتلقي من ناحية أخرى"([6]) هذا فضلاً عن فلسفته الكامنة في خلافية الحضور والغياب أو النطق والصمت، فالمباينة بين كلا الطرفين تعمل علي استدعاء الغائب للحاضر كما يستدعي الحاضر الغائب، وكان طبيعياً بعد أن تأصلت الفلسفة الجمالية لأسلوب الحذف أن يكون له دور الفاعلية الشعرية بين أدوات الأداء الشعري. بحيث لا تكاد قصيدة حديثة تخلو من استخدام هذا الأسلوب علي نحو أو آخر"([7]).
ويتم الحذف علي مستوى الصوت "الفونيم" وعلى مستوى الصيغة كما يتم علي مستوى التركيب.
    ولذلك فلقد رأينا بعض الشاعرات يحذفن بعض الحروف، تقول ريتا عودة:
تشتتني
أحرف العطف اللغوية
لا تفهمني إلا
علامات التعجب والسؤال
وأنت بعيد...
بعيد
مهاجر!!                                               (ريتا عودة، ثورة على الصمت، بعيداً عنك، ص10)
السرد الشعري
     والسرد (Narrative) مصطلح يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقصة والرواية ولكنه دخل النص الجديد مع لجوء الشاعرات إلى إزالة الحواجز بين النص الشعري وكافة الفنون الأدبية وبالأخص القص وتحوله إلى الكتابة عبر النوعية. وبذلك ابتدأنا نرى السرد الشعري في النصوص، وباتت القصيدة تأخذ عن الشعر المنحى الانفعالي للتجربة، وعن السرد الحياد اللغوي. والسرد هنا يشير إلى ثلاثة معان:
الأول: هو المضمون السردي، المتمثل في الأحداث المتتابعة بطرق متنوعة.
الثاني: هو فعل القص ذاته، الذي يطرح تنوعات متعددة لعلاقات الراوي والمروي له.
الثالث: هو الملفوظ السردي المكتوب أو الشفوي([8]).
    وكمثال على هذا التوجه أعرض النموذج التالي:
يا حارس الباب المضيء
أنا قد قصدتك طفلة فرددتني،
ونصحتني ألا أعود بغير أختام، وتصريح يجيز لي المرور،
وأبنت لي:
هذي المدينة مقفلة،
قدماك حافيتان،
والسور عال،
بشظى الزجاج تحصنت أطرافه،
وبلحم بعض العابرين.
يا حارس الباب المضيء
ها قد أتيت،
كل المراسيم التي أوصيتني،
أنجزتها،
فالزرد مصباح الطريق،
ودمي تسلل نازفاً من دربه السري، يرفدها قلوب
الياسمين،
ويتمت في يتم اليتامى،
...
التداعي:
     " التداعي هو طريقة في السرد قريبة بعض الشيء من مفهوم تيار الوعي، حيث تتداعى الأفكار التي تبدو غير مترابطة تباعاً. وهنا، فإن القاريء يدخل ذهن الرواي ليرى تتابع المشاهد والحداث غير المترابطة، ويفك-بنفسه- شفرتها، إلا أن الأمر مختلف في حالة الشعر، حيث أن التداعي يتم للربط بين مفردات تتدرج داخل علاقة، لكنها تظل متوازية، ولا تحتاج – في هذه الحالة- إلى فض شفرتها، بقدر ما تحتاج إلى قدر من الوعي الشعري للتواصل معها. وهذه الآلية السردية تستهدف كسر حالة الاسترخاء الذهني التي قد يستدعيها وضوح النص، كي يمارس القاريء نوعاً من فرح الظن اللذيذ، على حد تعبير مالارميه"([9]).
ثالثاً- التوقيع:
    التوقيع ظاهرة بلاغية تعني ( الإتيان بكلمة واحدة، أو بمقطع صغير، بعد مقطع أو مقاطع طويلة، حيث تكون الكلمة هي قفلة تامة للمعنى) ... وإنها إحدى أهم خصائص اللغة التداولية
فجأة!
ينتفض الطائر الحجول
يزأر
    يركل
          يمحو
                يجلد
يكنس ملامح العصيان
قبل أن تبدأ
                 الغناء!.                              ( عايدة حسنين، رؤى الياسمين، قمع، ص70)
     سأستعير وجهاً غير وجهي
وأعد قروشي السبعة
وأمضي في رحلة الشتاء والصيف
سأخونني
وأرمي بي في بحر
غفرانك يا داخلي الحزين
لي منك
قبس رخيم
ومشيُ مئذنة محدودبة
فيا إيلاف روحي
..إني لعائدةٌ..
وإني إلى ربي لراغبة
فأين شجرة الضوء
أين..
أين وجهي؟                                             ( رانة نزال، فيما كان، خيانة، ص52-53)

رابعاً- التكرار
ومن خصائص شعر المرأة الفلسطينية والصفة البارزة والمميزة لها التكرار، حيث تتردد ظاهرة التكرار في شعرها وتبرز بروزاً يلفت النظر، وظاهرة التكرار ليست ظاهرة جديدة فلقد وجدت في الشعر العربي القديم، وفي القرآن الكريم. وقد أشار إلى ذلك ابن سنان الخفاجي حيث يقول عن التكرار: " إن التكرار لا يعد عيباً إذا كان المعنى المقصود لا يتم إلا به"([10]) وبالطبع أن يكون مرتبطاً بالمعنى العام فلا بد أن يغني ويمد بدلالات جديدة تثري المعنى وتساعده في التعبير عن مكنون نفس الشاعرة.
     يعرف الدكتور شفيع السيد التكرار بقوله:" المراد به إعادة ذكر كلمة، أو عبارة بلفظها ومعناها، في موضع آخر أو مواضع متعددة من نص أدبي واحد"([11])، يؤدى التكرار – فضلاً عن كونه خصيصة أساسية في بنية النص الشعري – دوراً دلالياً علي مستوى الصيغة والتركيب.
     وإن الشعر الحديث بما توافر له من تجديد في الموسيقى، والبناء الشعري أكسب هذه الظاهرة أهمية أكبر، حيث وظفها الشعراء بمستوياتها المختلفة، جمالية وبلاغية، واستعاضوا بها عن رتابة الوزن والقافية.
     وللتكرار أغراض مثل الإشادة والتفخيم وتعظيم المتكرر، كما يفيد الوعيد والتهديد أو الهجاء والتشهير ومنه ما يفيد الحزن والتوجع ومنه ما يفيد التلذذ بذكر المكرر، والتكرار يعمل على تماسك النص ويبعد عن تقطع أوصاله، حيث يمنع ترهل النص، ويقي النص التشتت والانفلات، ويساعد على ضبط الإيقاع الدرامي والتخفيف من موجة التوتر والصخب التي تسيطر على النص. وبعض النصوص ترتكز في بنائها على التكرار، فيبدو ما يكرر وكأنه الهاجس الذي يسيطر على الشاعر ولا يستطيع الإفلات منه. والتكرار البلاغي له ما يبرره، فلا هو حشو أو زيادة في النص بل له وظيفة جمالية فنية، وله أثره في العمل الأدبي فهو يتضمن غرضاً فنياً عندما يدخل في نسيج النص وتشكيله البنائي، وهو حالة تأثير وتأثر.
     التكرار بمثابة نقاط ارتكاز، يؤكد عليها الشاعر فتعطيه دفعة قوية، ويساعد في تصوير حالة نفسية دقيقة أو مجرى اللاشعور عند إنسان مأزوم، ففي حالات تأزم الإنسان من محن وأزمات قد يستدعي من اللاوعي كلمة معينة يستدعيها من الماضي.
     والتكرار عند الشاعرة الفلسطينية كانت له في كثير من الأحيان مقصدية ولكنه في بعض الأحيان لم يكن مبرراً إبداعياً، تقول نازك الملائكة " أسلوب التكرار يستطيع أن يغني المعنى ويرفعه إلى مرتبة الأصالة، ذلك إن استطاع الشاعر أن يسيطر عليه سيطرة كاملة، ويستخدمه في موضعه وإلا فليس أيسر من أن يتحول هذا التكرار نفسه إلى اللفظية المبتذلة التي يمكن أن يقع فيها الشعراء الذين ينقصهم الحس اللغوي والموهبة والأصالة"([12])
     تكرر الشاعرة، وبشكل واع أحياناً، حيث تلح على جزء من العبارة تعنى بها أكثر من غيرها، وقد تلح عليها بعض الحروف، أو العبارات أو المفردات التي تتداعى في اللاوعي، تتسلط عليها في بعض الأحيان تحت تأثير بعض الضغوط أو المثيرات. حتى تبدو وكأنها مفتاح نصها الذي تفك كل أسراره من خلال ذلك التكرار. وقد تكون واعية له ساعية لإبرازه.
     وقد وظفت الشاعرات تقنية التكرار بأنماطها المختلفة ودلالاتها المتعددة، حتى باتت تعتبر من أكثر الظواهر التركيبية انتشاراً في نصهن الشعري، والبحث يشتمل على العديد من الأمثلة التي قمت فيها بتحليل ما ورد فيه من تكرار ودوره الدلالي والنفسي في النص. وقد ورد التكرار متنوعاً وعلى مختلف المستويات في نصوص الشاعرات من تكرار الصوت بنوعيه من سابق ولاحق، والكلمة من فعل واسم، والجملة من اسمية وفعلية، والتكرار قد يصل إلى المقطع الشعري الكامل، والنسق، بل تكرار النص كاملاً أو تكرار عنوانه لنص آخر. من ذلك على سبيل المثال:

تكرار الحرف:
     وهو من أنواع التكرار الذي يكثر في شعر المرأة الفلسطينية، حيث تلجأ الشاعرة إلى تكرار حرف الهمزة للتعبير عن المبالغة في الإنكار فالفكرة التي تلح على الشاعرة هنا هي فكرة الإنكار لما حدث، لذلك تستخدم التكرار بحرف الهمزة، لتعبر عن رفضها لفعل السؤال ومن ذلك أيضاً قول (مريم الصيفي) في نصها ( ضفيرة ) تقول:
أتسألين عن غيابهم/ في عتمة الدجى ...؟ أتسألين عن تراجع المدى..؟
أتسألين عن مرابع الإياب..؟/ أتسألين عن تراجع الدروب
في مسارها..؟
أتسألين عن تلعثم الحروف
عن تصلب الدماء في العروق؟       ( مريم الصيفي، عناقيد في سلاسل الضوء، ضفيرة، ص25-26).
     وجاء تكرار الشاعرة للتسويف (سوف) مع أفعال المضارع للتعبير عن الرفض لأن يتركها ويغادر، تقول:
لا تغادر
قبل أن تقسم أن العمر من بعدك آت
قبل أن تقسم أن القلب من بعدك حي
قبل أن تقسم أني
سوف أضحك،
سوف أغفو
سوف أرقص،
سوف تدفئني الليالي
لا تغادر                                          ( فاتنة الغرة، امرأة مشاغبة جداً، لا تغادر، ص 39)
     والتكرار يحمل هنا دلالة على نفسية امرأة لم تهزم من داخلها، ولم يتسلل اليأس إلى نفسها لحظة واحدة، لذلك تعلن بإلحاح شديد وإصرار كبير على رفض الموت الكامن في مغادرة الأخ الشهيد إياها وتركها لأمواج المجتمع المتلاطمة تلوح بها كيف شاءت.
تكرار الصيغة:
     ويشمل الدواخل ( كحروف الجر وأدوات الشرط والنداء) والسوابق ( كحرف المضارعة) واللواحق (كالضمائر المنفصلة والمتصلة ) والخوالف ( كالتعجب والاستغاثة ) كما يشمل أيضاً تكرار الأسماء والأفعال.
1 – الدواخل
     يكثر ورود حرف الجر في نصوص الشاعرات، لاسيما ( في، الكاف، عن، من)، ومن أمثلة ذلك التكرار قول (سهير أبو عقصة داود):
أغني لك يا سيدي الموت/ ألبس عباءتك السوداء
أكتب قليلاً عن الرثاء
عن العمر الذي مضى للريح
عن الوجع/عن الخطايا/عن حكايا الراوي
عن معنى القصيدة/هي حكمة نحكيها
يوم" لا حول ولا"
بأننا حلم سيعبر
في جريدة            ( سهير أبو عقصة داوود، الخطايا العشر، الخطيئة التاسعة، أغاني الليل، ص79-80)
     يلعب حرف الجر (عن) دوراً دلالياً، فهو يتردد (6) مرات، في ستة أسطر متتالية، دليلاً على كثرة هموم المرأة التي تريد الحديث عنها وتعدادها، للتقصي بغية الوصول إلي الحقيقة التي منت الشاعرة نفسها بالبحث عنها، واستقصائها، وتوصيلها إلى المتلقي. فهي تريد للموت الذي يعاجل النساء التمهل أمام نساء لم يكن هناك ما يتحدثن عنه في حياتهن، فكل ما يتحدثن عنه هو عبارة عن وجع وخطايا وعمر ماض، وحكايا مفروضة في المجتمع الذكوري.
    وتكرر (مريم الصيفي) أداة الاستفهام (كم) التي تفيد الكثرة، تقول:
كم من الفيء يذرف القلب وجداً/ كم من الدفء كامن في صلاتي ...
كم من الخوف تنسج الروح سرا .../ كم من الشوق ينزف العمر نزفاً...
كم من الغيم تستقيه الحنايا/ لتداني من الحياة ربيعاً...
كم وكم ... ومن ومن ... ولكن/عاقرٌ غيمةٌ مضت في فضائي...
فزروعي على جفاف/ وما من موسم يرتجى
وحلمى هباء...                                   ( مريم الصيفي، عناقيد في سلال الضوء، كم، ص 111)
     وظفت (مريم الصيفي)، أداة الاستفهام (كم) لتؤكد على كثرة ما تم تقديمه من قبلها، وعدم تحقق شيء من الآمال أو الأحلام في مقابلها. وأفاد تكرارها عبر بنية الترديد تحقيق الجرس الموسيقي في بنية النص الداخلية. وقد كان التكرار في الأسطر الشعرية السابقة في شكلين الأول: عمودياً كما في تكرار (كم) حتى السطر الخامس، والآخر أفقياً متمثلاً في السطر السابع.
     ومن الحروف الدواخل حرف النداء الثنائي (يا) وهو لنداء البعيد وللتنبيه أيضاً وقد وظفته الشاعرة (شهلا الكيالي) حين أخذت تنادي العديد من المدن الفلسطينية مركزة في ندائها على (اللد) بلدتها وقد سبق لي الإشارة إلى هذا المثال([13]). والشاعرة توظف خاصية التكرار في بيان ما تعانيه من الغربة تستثير النخوة العربية وتلهب المشاعر تجاه أجزاء الوطن، وإلى جانب الأبعاد الدلالية نلمس ما أضفاه التكرار على النص من حيوية إيقاعية، فالمتكرر يمثل بؤرة الإيقاع وموسيقاه الداخلية.
2- السوابق:
     وتحت هذا العنوان نجد عند الشاعرات ثلاث سوابق شائعة وهي الواو، وحرف المضارعة وضمير المتكلم وقد بدت كلها واضحة عبر البحث تقول (ريتا عودة):
حين أكون أنا.. " أنا"
وتتقبل أنت وجودي كما أنا
تتفجر حروفي/ تتبعثر أمواج قلقي
تلتقي كل الخطوط المتوازية/ المرسومة على خارطة علاقتنا
تستدير/ تتلوى/ تتكاثر/ تتشعب/ تتمرد على كل الأطر
تتدفق في كل اتجاه/ تمتزج العتمة بالضوء/ تتحد الأيام.. تتعانق
تستبدل سماء فرحتي موقعها/ مع الأرض
تتقاسم شمس مشاعري أشعتها/ مع القمر
تستيقظ داخل أفكاري/ ملائكة الفرح
تتكاثر خلايا الأمل/ ينجب حلم التكافؤ حقيقة   (ريتا عودة، ثورة على الصمت، علاقة متبادلة، ص76)
     وفي المثال السابق ترتبط التاء بالأفعال وتحمل معنى الاستمرار وهي توحي بجهة الزمن وقد أضفى تكرارها قبل الأفعال على المقطع كثيراً من الموسيقى.
3-  اللواحق:
     يأتي تكرار اللواحق دالاً علي معنى تؤكد عليه الشاعرة وقد لاحظت تكرار ضمير المتكلمين (نا) طوال النص الشعري في القصائد الموزونة أحياناً وفي تكراره تأكيد على الملكية. وقد أشرت إلى تكراره في السابق([14]). وتكراره وكاف الخطاب في العديد من المقاطع في نصوص التفعيلة([15]).

4- الخوالف:
ا- الصيغ المشتقة
ونأخذ أكثرها شيوعاً
1- صيغة التعجب.
     تستخدم الشاعرات جمل التعجب، وأداة التعجب بشكل ملحوظ، وهذه الأساليب مالئة أو مكملة لا معنى لها كما يقرر اللغويون، إذ إن المكملات (التي ليس لها دور وظيفي فيما يخص المحتوى ) تضعف حقيقة الشيء المراد بثه، ويذهب بعض الباحثين إلى أن هذه الأساليب تحدد وظيفة اجتماعية ( كالسياق، والإقناع، والتنوع ) وتربط بين المتكلم والمخاطب والشاعرة تريد أن تجذب المتلقي لما تكتبه وقد أشرت إلى تعجب الشاعرات عبر الاستفهام وعبر التشكيل البصري.

ب- اسم الفاعل
     اسم الفاعل " هو ما اشتق من مصدر المبني للفاعل، لمن وقع منه الفعل أو تعلق به"، وقليلاً ما يظهر اسم الفاعل عند الشاعرات وإذا وجد فإنه يحمل صفات تدل على سلبية للمرأة، وقد ظهرت بعض الصفات بصيغة اسم الفاعل عند (فاتنة الغرة) في نصها (بوابة) فاحتوت على الدوال( مهاترة، معتوهة، مهترئة) والتي وصفها الرجل بها في النص وهي مستغربة تسأله( أنا؟) مع صفات سلبية أخرى لم تكن بصيغة اسم الفاعل. وعنوان الديوان نفسه يحمل اسم الفاعل ( مشاغبة) التي يعتبرها المجتمع صفة سلبية للمرأة. والصيغة معادلة لحالات انفعالية مصاحبة لمواقف جزئية متنوعة، ويرجع (أوتو) أسماء الأفعال في غالبها أو جميعها إلى مجال التعبير الانفعالي([16]).
     ومن سمات بناء الجملة في الشعر النسائي أن تتحول الذات إلى مفعول به وإلى أشياء مشخصة، تقول (ريتا عودة):
أن أكون فاعلاً
أو أكون مفعولاً به
تلك
تلك هي المسألة!                            ( ريتا عودة، ثورة على الصمت، زمن الحب الآخر، ص 80)
     وتحول الذات المؤنثة إلى مفعول به، يتميز بقدر كبير من السلبية يجعلها أكثر سلبية من الجماد والأشياء، إنها مفعول به في الحالتين، في المكانين، بين أهلها، وعند الزوج، مثلها مثل الأشياء الملقاة.
الكلمة:
     تعتبر الكلمة "وحدة الكلام المستعمل الموجودة بالفعل توافق التجربة الحقيقية والتاريخ والفن. وليست الجملة جزءاً منطقياً يقابل الفكرة التامة إلا متى اعتبرناها مبنية من العناصر الأصول والعناصر النحوية التي تكمن في خفايا كلماتها. ولا تكون الجملة طرفاً نفسياً مقابلاً للتجربة والفن إلا متى أحسسنا وجودها"([17]).
     وقد استخدمت الشاعرات تكرار الكلمة أكثر من غيره من الألوان الأخرى من التكرار فهو أبسط الأنواع. وهي أدنى وحدة مجردة والثانية باعتبارها التجسيم الجمالي الذي ينجز الفكرة الموحدة([18]). وقد لمست ذلك من خلال الاطلاع على دواوينهن التي تناولتها في الدراسة. ويمكن لتكرار الكلمة أن يحقق إيقاعاً يساير المعنى ويجسمه.
    وقد تكون الكلمة اسماً أو فعلاً، ولقد استخدمت الشاعرات التكرار في الأسماء وكذلك في الأفعال:
ا- تكرار الفعل:
     ومثاله ما نراه من إصرار على العودة إلى الوطن تقول (هيام رمزي الدردنجي) في نصها ( إصرار):
ب- تكرار الاسم:
     كررت الشاعرة الاسم وبنسبة تفوق تكرار الفعل، تقول (فاتنة الغرة:(
فوضاى تخصني وحدي
وجنوني
يزعج اللغات المنقرضة                                       ( فاتنة الغرة، امرأة مشاغبة جداً، ص77 )
      وقد كررت (فاتنة الغرة) الدال ( فوضى) 6 مرات في النص، لتسنده في السابعة إلى ياء المتكلم، إلى ذاتها التي تشعر بالفوضى والصخب، والرغبة وتضج من ذلك العالم الذي يرفض متطلباتها وطموحاتها التي حاولت إخفائها بأنها فوضى تلاحقها.
     وتكرر (روز شوملي) لفظ (الحائط) وهي تعدد الحواجز التي تقف في وجه المرأة وتحول بينها وبين الانخرط في المجتمع، تقول:
هذه النبتة لا تعرف الخوف
تتسلق الحائط المجاور
والحائط المقابل
تتسلق السقف
تنهمر كالشلال على أرض الغرفة
لا حدود لها
هي الشمس
هي المرأة التي تتخطى المليون حاجز
وتظل واقفة                                        ( روز شوملي، حلاوة الروح، لا حدود، ص 16)
     حقاً تكرر لفظ (الحائط) عند الشاعرة ولكن الأمر لم يقف عند لفظ الحائط، فهي تريد التأكيد على كل أنواع الحوائط المفروضة، وعلى أنها أنواع عديدة وليست صنفاً واحداً، ولكنها في النهاية تتبع الجنس نفسه، ولذلك تستخدم مرادفاتها مثل: ( السقف، والحاجز، الغرفة)، وتبين الشاعرة تعدد الحوائط من خلال وصف الحائط بـ ( المجاور، المقابل)، ولفظ ( مليون) كعدد يدل على كثرة الحواجز وأنها لا حدود لها، فلفظ مليون يستخدم للتدليل على الكثرة. وبالرغم من كل تلك الحواجز التي تقف حائلاً بين المرأة التي وصفتها بالشمس، وبالنور الذي يسعون لحجبه عن المجتمع بقمعه واحتجازه في غرفة محدودة؛ فإن المرأة أمام كل تلك الحجب، (والتي هي عبارة عن أسماء) لم تقابلها بالأسماء بل بالأفعال ولذلك فهي تتسلقها، ولقد كررت الشاعرة لفظ تتسلق مرتين لتلحقه بالألفاظ (تنهمر، وتتخطى، وتنهي) مكثفة بقولها و(تظل واقفة). كما أنها في حركتها تحتاج السرعة ولذلك اختفت حروف العطف، التي تؤخرها وتأخذ من وقتها؛ فهي لا تنهزم ولا تعرف الخوف أمام عدم محدودية الموانع بأنواعها، بالرغم من أن عودها ما زال طرياً حيث وصفته بـ( النبتة). وكانت قد وصفته بانه يعمل على حجب النور عن المجتمع، وهذا ما أدركته (ميّ زيادة) بفطرة أنثوية ثاقبة فقالت: "لو أبدلنا المرأة بالرجل وعاملناه بمثل ما عاملها فحرمناه النور والحرية دهوراً، فأي صورة هزلية يا ترى تبقى لنا من ذياك الصنديد المغوار"([19]).
     وكررت (سهير أبو عقصة) لفظ (آسفة) سبع مرات، في قصيدتها (آسفة) والتي كانت تمثل الخطيئة العاشرة التي تعرضها للمتلقي، ولقد أسفت بها على الكثير مما مر من عمرها وهي تعاني الأرق والقلق والحزن والضيق من الصمت، والإفراط في الحب والجنون والحنين، فهي تعاني من الاضطهاد الذكوري وأوامره المتعددة والمتصلبة، ورغبة الرجل في تشييئها. كما كررت لفظ "خطايا" عبر ديوانها ( الخطايا العشر) (18) مرة. وجميع الخطايا التي أشارت إليها هي قيود يفرضها المجتمع على المرأة وفي حال تخطيها إياها يدخل تصرفها ضمن الخطايا. وقد عدت الشاعرة عشر خطايا عبر ديوانها وعبرت عنها من وجهة نظرها.
     وتكرر لفظ (الباب) عند معظم الشاعرات وهو رمز لكل أنواع الحواجز والعوائق فلقد تكرر عند (فاتنة الغرة)، ولكنه كان المفتاح الدلالي في ديوان (سمية السوسي) التي كررت لفظ الباب وأبواب (29) مرة، مستخدمة الباب بمعناه المعروف، وبمعناه الثقافي الاجتماعي، وبمعناه الصوفي، فلقد جاء الباب ثلاثي الأبعاد، ولكل متلق الحق في أن يشارك بطرح دلالات جديدة للباب الذي يعيه من سياق نصها، وفقاً لما تقوده له ثقافته وتخصصه.
   ولقد ورد لفظ (نافذة) عند (سمية السوسي) ولكنه كان نقطة التبئير عند (صباح القلازين) التي أطلقت على ديوانها اسم ( نوافذ)، ليأتي الديوان بعد ذلك مشتملاً على عشر قصائد مرقمة، بدأتها بالنافذة الأولى واختتمتها بالنافذة العاشرة. والنافذة هي سبيل الانفتاح على العالم عند المرأة، وهي رمز الحرية القابع في الذاكرة حيث كان يحرم على المرأة الوقوف في النافذة، أو رؤية العالم الخارجي.
 ثانيا- تكرار التركيب
أ – تكرار / الجملة المبتورة:
     تكثر نماذجها في شعر المرأة الفلسطينية وقد اشتمل البحث على كثير منها.
ب - تكرار الجملة:
     وهذا التكرار للجملة بنوعيها: اسمية أو فعلية أقل من سابقه حيث تكرر الشاعرة جملة بعينها أكثر من مرة في النص الواحد، وأحياناً تهيمن هذه العبارة على النص جميعه من خلال كثافة تكرارها فيه، ففي قصيدة (جواب) تقول (أنيسة درويش):
وطرقت الباب
ملتاع قلبي بعد غياب
يحن إليك
وشفاهي جمدها النسيان
تهفو لعناق من شفتيك
...
وطرقت الباب لتفتحه
ويصرخ في جنون الغاب
وتحملني
...
وطرقت الباب
طرقت الباب
ويأتيني في الصمت جواب
وأهون عليك                                         ( أنيسة درويش، وأهون عليك، جواب، ص 26-27)
     كررت الشاعرة الجملة الفعلية (وطرقت الباب) أربع مرات، حيث بدأت بها ولعل في وجود حرف العطف (الواو) في بدايتها ما يحمل الكثير من الألم والتعب والتردد والتكرار، حيث بدت الجملة وكأن الطرق لم يكن للمرة الأولى، ثم كررتها، ليتم تكرارها بشكل مكثف في المقطع الأخير مما منحها كثيراً من الألم واللوعة بسبب كثرة المحاولات التي تمت في طرق الباب، والتي باءت بالفشل. هذا الباب الذي يرمز إلى الحاجز القاسي الذي يحول بين المرأة والعالم، وبدخوله تدخل المرأة الفضاء الخارجي. ولقد كررت الشاعرة طرق الباب، لتؤكد على تعدد الأبواب من جانب، ومن جانب آخر تبرز ضيقها من رد محبوبها الذي تمسك دائماً بالصمت، ولقد تعرضت لصمته في نصوص كثيرة.
تكرار السطر الشعري والمقطع
     كررت (مريم الصيفي) السطر الشعري (قل لي)، وذلك في نصها ( لمن البوح)([20]). تطلب من الرجل أن يخبرها لمن ستبوح والوطن محتل يعاني ما يعاني. وكررت (فاتنة الغرة) (لا تغادر)... وغيرها.
     وهذا التكرار كسابقه قد يأتي في أول القصيدة ووسطها ونهايتها ويأتي كتنبيه للذهن وإيقاظ للنفس، كما يمكن أن يكون كلازمة تعمل على الربط بين أجزاء القصيدة.
     تكرار لا يأتي تباعاً في أسطر متوالية، وإنما يقع على مسافات متباعدة في شكل منتظم، أو بعبارة تقع في بداية كل مقطع من مقاطع القصيدة، لتمثل الجملة المتكررة نقطة الانطلاق للدلالة، وهذا النمط من التكرار يطلق عليه – كما تسميه نازك الملائكة – تكرار التقسيم وهو يؤدي وظيفة افتتاح المقطوعة، ويدق الجرس مؤذناً بتفرع جديد للمعنى الأساسي الذي تقوم عليه القصيدة.
     ولدى الشاعرات تكرار في المقطع وهو تكرار يحتاج إلي وعي كبير من الشاعرة لطبيعة كونه تكراراً طويلاً يمتد إلي مقطع كامل. وأضمن سبيل إلى نجاحه أن الشاعرة تعمد إلي إدخال تغيير طفيف علي المقطع المكرر.
     وكثيراً ما تعمد الشاعرة إلى تكرار المقطع في مطلع النص ونهايته، مع ما في هذا النمط التكراري من أهمية تبرز العبارة المتكررة، وتنبه المتلقي بأنها ذروة القصيدة، والمهيمنة على دلالتها وبنائها، كما أنها تجعل للنص دائرة نفسية مطلقة تلتحم البداية فيها بالنهاية، في بناء لغوي محكم.

الصورة:
     الصورة الشعرية عنصر مهم في التراكيب الشعرية بل جوهر الشعر وأداة فنية تعتمد عليها الشاعرة في الخلق والابتكار لنقل فكرتها وعاطفتها بشكل شاعري ومؤثر ولا تستطيع الاستغناء عنها. وهي " انبثاق تلقائي حر يفرض نفسه على الشاعر كتعبير وحيد عن لحظة نفسية انفعالية تريد أن تتجسد في حالة من الانسجام مع الطبيعة من حيث هي مصدرها البعيد الأغوار، وتنفرد عنها ربما إلى درجة التناقض والعبث بنظامها وقوانينها وعلاقاتها تأكيداً لوجودها الخاص، ودلالتها الخاصة، والصورة ليست أداة لتجسيد شعور أو فكر سابق عليها، بل هي الشعور والفكر ذاته، ولقد وجدا بها ولم يوجدا من خلالها"([21]).
     والصورة عند (عبد القادر القط) "الشكل الفني الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينظمها الشاعر في سياق بياني خاص ليعبر عن جانب من جوانب التجربة الشعرية الكاملة في القصيدة، مستخدماً إمكانيات اللغة، وطاقاتها في الدلالة والتركيب والإيقاع والحقيقة والمجاز والترادف والتضاد والمقابلة والتجانس وغيرها من وسائل التعبير الفني"([22])، وتؤدي وظيفتها على مستويين: مستوى دلالي، ومستوى نفسي.
     ولقد بنت الشاعرات الفلسطينيات صورهن في الغالب بطريقة أنثوية توحي باختصاص المرأة بخيال خاص بها يميزها عن خيال الرجل. خيال تم تكونه في النصف الماضي من القرن السابق وكان يتقدم بطيئاً متناسباً مع تقدم وتطور المرأة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
     فالصور تعكس تجربة الشاعرة الخارجية، وتستبطن الانفعالات النفسية والشعورية الداخلية وهذا ما يؤكد عليه (نوفاليس) فالشعر عنده " تصوير الكنه النفسي، كما هو تصوير العالم الداخلي بكليته، هذا ما توضحه الكلمات التي هي واسطته – إن الكلمات هي بالتأكيد التجلي الخارجي لهذا العالم الداخلي من القوى"([23]).
المشهدية:
     وأعني بالمشهدية جعل اللحظة السردية تقع في دائرة تقترب من المرئي، أي جمالية المشاهدة، فلقد تغيرت الصورة الشعرية في قصيدة التفعيلة وازداد هذا الأمر ظهوراً في قصيدة النثر حيث لم يعد الاهتمام بالصور الجزئية واضحاً حتى كاد النص يخلو منها، وذلك نظراً لتغير وضعية الشاعرة داخل الكون، بانتقالها من المركز إلى الهامش، وتغير طبيعة الحدس لديها، وطبيعة المعرفة الشعرية. وقد حل محل الصور الجزئية الاهتمام بالصورة الكلية أو المقطع. فحين سادت آليات السرد الذي تمثله اللغة التداولية بديلاً عن الانحراف أو الانزياح اللغوي، نتج عن ذلك نوع من الحيود، حيث إن السرد يقتضي رسم صورة كلية، دون أن يعول كثيراً على نحت صور جزئية، لأنها – بطبيعتها- تتطلب انحرافاً لغوياً لم يعد قائماً داخل القصيدة. وهنا بات النص يتأسس على مفهوم المشهدية الذي يعتمد على خلق مشهد شعري يتسم بالاضطراد والاكتمال. وهذا الاكتمال لا يتحقق إلا عند الوصول إلى الكلمة الأخيرة من المقطع/ القصيدة، وفي غمار العملية الإبداعية، فإن الشاعرة تدرك أن العلاقات الفنية داخل المشهد تنحو نحو الصراع فيما بين التفكير الحسي والرؤية البصرية للعلاقات بين الأشياء. فالتفكير الحسي يوغل في صميم هذه الأشياء، بينما الرؤية البصرية هي إدراك خارجي عام لتلك الأشياء، ومن قبل كانت الشاعرة تتعامل مع كل منهما من منطلق التكامل والانسجام. أما في قصيدة النثر فإن الشاعرة تضمهما معاً ضمن منظور الاختلاف والصدام، حيث تميل القصيدة إلى التأكيد على الرؤية البصرية، أكثر مما تؤكد على التفكير الحسي. تقول ( سهير أبو عقصة داود):
حين أحببتك من وراء الستار


([1]) محمد عبد المطلب، جدلية الإفراد والتركيب، مكتبة الحرية الحديثة، ط1، 1990، ص168.
([2]) عايدة حسنين، خطو المرايا، لماذا، ص22.
([3]) منى عادل ظاهر، طعم التفاح، لماذا نزرع الورد؟!، ص83-84.
([4]) عبد العزيز موافي، قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية، ص261.
([5]) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، تحقيق السيد رشيد رضا، دار المعارف للطباعة والنشر، 1978، ص146.
([6]) علي عشري زايد، عن بناء القصيدة العربية الحديثة، ص57.
([7]) المرجع السابق، ص56.
([8]) المرجع السابق، ص37.
([9] ) عبد العزيز موافي، قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية، ص237.
([10]) ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة، شرح وتعليق، عبد المتعال الصعيدي، القاهرة، 1969، ص 62. وكذلك انظر ابن رشيق، العمدة، ج3، ط4، ص 75.. وما بعدها.
([11]) شفيع السيد، البحث البلاغي، ص171.
([12]) نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، ص241.
([13]) شهلا الكيالي، عندما الأرض تجيء، عندما الأرض تجيء، ص85.
([14]) أنظر: أنيسة درويش، وأهون عليك، العشق في الغرف المحكمة الإغلاق، ص83-84.
([15]) أنظر: زينب حبش، لا تقولي مات يا أمي، على جدران زنزانة، ص44.
([16]) أوتو جسبرن، اللغة والمرأة، ت: حسام الخطيب، دار الآداب، بيروت، ص54.
([17]) أوتو جسبرن، اللغة والمرأة، ت: حسام الخطيب، دار الآداب، بيروت، ص48.
([18]) المرجع السابق، ص48.
[19])) ميّ زيادة، الأعمال الكاملة، ج1، ص065.
([20]) مريم الصيفي، عناقيد في سلال الضوء، لمن البوح، ص16-17.
([21]) محمد حسن عبد الله، الصورة والبناء الشعري، دارالمعارف، مصر، 1981، ص33.
([22]) عبد القادر القط، الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، دار النهضة العربية، بيروت، ط2، 1981، ص 391.
([23]) نوفاليس، فن الشعر، ت: رشيد حبشي، مجلة مواقف، العددان 24-25-1972، بيروت، ص207.

Post a Comment

Previous Post Next Post