أولاً- الرمز:
     يعتبر الرمز من الظواهر الفنية اللافتة في الشعر المعاصر والحديث، وبما أن الحقيقة المجردة تظل عاجزة عن التعبير بصورة كافية عن مشاعر الكاتبة وطبيعة تجربتها كان لا بد لها من استخدام الرمز من أجل الإيحاء بأعمق الدلالات لما تريد أن توصله من معنى أو معاني متناسلة من بعضها البعض، وهو يحفز الفكر، ويترك للخيال العنان أن ينطلق.
    يعرف (مصطفى ناصيف) الرمز "بأنه ما ينوب ويوحي بشيء آخر لعلاقة بينهما من قرابة أو اقتران أو مشابهة، وهو وسيلة إدراك ما لا يستطيع التعبير عنه بغيره، فهو أفضل طريقة ممكنة للتعبير عن شيء لا يوجد له أي معادل لفظي، وهو بديل من شيء يصعب أو يستحيل تناوله في ذاته"([1]).
     أما (عز الدين إسماعيل) فإنه يربط الرمز بالتجربة الشعرية، يقول:" الرمز الشعري مرتبط كل الارتباط بالتجربة الشعورية التي يعانيها الشاعر، والتي تمنح الأشياء مغزى خاصاً"([2])
    وقد أرجع الدكتور (درويش الجندي) أسباب رجوع الشعراء إلى الرمز إلى أربعة أسباب نفسية:
1-  الشعور بالعجز عن التصريح.
2-   الخوف من التصريح الذي قد يجر إلى التعرض للأذى.
3-   بعض الأمراض النفسية التي تدعو إلى اضطراب مزاج الشاعر وتعلقه بالأوهام والخيالات.
4-   الرغبة في التفوق بالظهور بمظهر الإغراب وإلباس الشعر طابع الغموض.
ولعل السبب الثاني من أكثر الأسباب التي دفعت الشاعرات إلى الترميز في عرض تجاربهن الشعرية. خاصة في حالة اشتمال تجاربهن على ما من شأنه أن يتجاوز بعض الممنوعات التي أقامها المجتمع سيفاً مسلطاً على رقبة المرأة.
     وبعمل مسح شامل لما اشتملت عليه أعمال الشاعرات التي قمت بتحديدها للدراسة وجدت أنهن يملن إلى الشفافية في رموزهن. والرمز عندهن يشف عن نفسه. أما الرمزية المفرطة في الغموض والخيال (والتي تبعد الشعر عن اللذة النفسية والمتعة الفنية، ولا تساعد المتلقي على تلقي الرسالة، بل قد تنفره وتبعث نفسه على السأم حيث إنها تضطره إلى بذل الجهد الكثير وهو راغب في الاستمتاع بالنص). فلم أجدها متوفرة عندهن. وإن كانت القليلات لديهن بعض الرموز المعقدة قليلاً والتي تحمل دلالات عدة.
     ولقد لجأت الشاعرات إلى الرمز، ولكن الملاحظ أن الرمزية لديهن ليست الرمزية بمفهومها الغربي كأحد المذاهب الأدبية التي تركت بصماتها على الشعر العربي المعاصر بوجه عام. فهي أبسط من ذلك بكثير وظفتها الشاعرات على سبيل التجريب. واستخدمنها خوفاً من التصريح فيما يردن قوله أمام العدو الغاشم في الأرض المحتلة، أو السلطة التي تعيش الشاعرة في ظلالها.
     وقد جمعت بعض الشاعرات بين رمزية الأسلوب ورمزية الموضوع، وعمدن إلى اختيار موضوعات خفية القصد غائمة المعنى نوعاً ما، كما هي الحال عند الشاعرتين (عطاف جانم، وسمية السوسي).
     ولما كانت تجربة الشاعرات الفلسطينيات إما ذاتية نسوية، وإما وطنية قومية فلقد كانت رموزهن مرتبطة بصميم تلك التجارب بكل أبعادها ومستوياتها. وكما كانت الوفرة في رموزهن ترتبط بالوطن والعدو، فإن ذلك لم يمنع من وجود رموز وظفتها في الإشارة إلى قضاياها النسوية وآلامها الناتجة عن القهر المجتمعي، وقمقم العادات والتقاليد.
     ولقد تشابهت الشاعرات مع بعضهن بعضاً في رموزهن، وتشابهن مع بعض الشعراء في الرموز الوطنية. واختلفن عن بعضهن البعض وعن الشعراء في الرموز النسوية.
     (فدوى طوقان) لم تستخدم الرمز في أوائل دواوينها إلا بصورة يسيرة وليس لها في ديوانها الأول (وحدي مع الأيام) سوى قصيدتين رمزيتين هما (من وراء الجدران) و(الروض المستباح) في الأولى رمز موضوعي فقد اتخذت من (الروض المستباح) رمزاً لوطنها المغتصب فلسطين، ومن (الطائر)- الذي تعود الغناء في روضه دون أن يفطن إلى أسراب البوم- رمزاً للإنسان الفلسطيني. أما (البوم) فقد رمزت به إلى اليهود الدخلاء، أما قصيدتها الثانية (من وراء الجدران) فقد رمزت (بالجدران) إلى الحجاب سواء من التقاليد والأعراف الاجتماعية أو الدينية، ورمزت للحجب مرة أخرى (بالصخرة). وفي (الطوفان والشجرة) في ديوانها (الليل والفرسان)([3])، رمزت بالطوفان للعدو الصهيوني، و(الشجرة) للأمة العربية، و(الطير) رمز السلام والخير. وهي رموز واضحة وبسيطة. وقليلاً ما كانت تحتمل عدة دلالات.
     و"تتميز رموزها بالشفافية غير الموغلة في الغموض، وتتمحور هذه الرموز حول مرموزات معينة هي/ الوطن – الفدائي- العدو- والرمز الاجتماعي. إلا أننا نجد تكثيفاً لرموز العدو والاحتلال إذ بلغت أكثر من ثلثي إجمالي عدد الرموز الواردة في نصها الشعري"([4]).
     وهناك الكثير من الشاعرات اللواتي كانت لديهن رموزهن الخاصة فالفدائي البطل هو البحر الهادر، والفارس المغوار، والنجم الساطع والفجر، كما رمزن له بالفجر، والنهار، أما الوطن فهو الحبيب، والظلم هو الليل والسواد، وهذه كلها بسيطة غير مركبة. لا يطيل المتلقي في الوقوف عندها أو في استيعابها. فهي ذات مستوى دلالي مباشر.
     ترمز (عطاف جانم) لأبناء فلسطين المقاومين أبناء الانتفاضة في ديوانها (لزمان سيجيء) (بالأشجار الباسقة). وكلما ازداد العدو الصهيوني عنفاً في مطاردته وتعذيبه، وسجنه واعتقالاته الإدارية، بل كلما زاد العدو البغيض في تكسير الأيدي والأرجل، وتهشيم العظام، تنامت هذه الأشجار وطالت وأثمرت([5]). ورمزت لهم (بالسنديان) كرمز للصلابة والرسوخ والثبات على الموقف.
     وهي ترمز للعدو (بالعلوق)، والعلوق حشرة تلتصق بالجلد وتلدغ وتمتص الدم ويصعب رفعها عن الجسم بسهولة فهي تلتصق بشدة في الجسم، كما أن شكلها مؤذ للعين يكرهه الناس. وفي الهامش تكتب الشاعرة معرفة بالعلوق أنه: الغول والداهية، تقول:
فسبحان ربي!/ لكم كنت فيك تراباً/ وأفقاً مضاءً/ وماءً
وكنتِ/ سراج الدليل بنبضي/ وسفراً لعبئي ... ووعدي
أمام الغريمة(*[6])، فاجرة البحر
من بكرت بالعلوق الزنيمة(*[7])/ والشعشبون(**[8])/ ولم يحرقوها
تبخترت با ابن زياد/ فبخرت أهواز همي (عطاف جانم، ندم الشجرة، فكيف ... وحيفا، ص85)
     وهي تصور الغريمة _ أول سفينة حملت اليهود عن طريق البحر إلى فلسطين- بأنها قد حملت مبكراً باليهود الذين يشبهون العلوق، حيث علقوا فينا وامتصوا دماءنا وخيراتنا وبات من الصعب خلعهم فلقد التصقوا بالمكان. وفي أوصاف أخرى تصفهم بأبناء الحرام، المتطفلين والقذرين والهشين كالعنكبوت. وهي تلوم أن لم يتم حرقهم منذ السفينة الأولى. فمن حينها تبخر حلمها وأملها في الوطن وخيراته ونوره الهادي. وترجع السبب إلى أنه ما عاد هناك طارق بن زياد ليحرق السفن ويجبر الجيش على المقاومة.
     وهي تكرر لفظ علوق (4) مرات في النص، ولذلك تقول في مقطع نهاية النص:
تمضي بنا
لنقبع العلوق عن جلودنا ( عطاف جانم، ندم الشجرة، فكيف ... وحيفا، ص 81-87)
     وهي تجعل العدو (دبابير)، أما الفلسطينيون فهم عصافير، تقول:
هذا العصفور ( دبابير) الثكنات
طويلاً صدته (عطاف جانم، لزمان سيجيء، وتجندل قانون الحجر، ص 11)
     أما (حيفا) فقد رمزت لها بأنها (بؤبؤ العين)، ولقد جعلت الطفل يسأل الأستاذ عن سر ذلك العدو الذي احتل الوطن والذي رمزت له (بالخفافيش)([9])، تقول:
من صبي يقرأ القرآن وهناً.../ في اتقاد واتزان ... وضحاء
يسأل الأستاذ عن سر الخفافيش/ وعن سيف علي / عن سماد لحقول العنفوان
وقداسات الإزار الدموي (عطاف جانم، لزمان سيجيء، وأصاخ الكون سمعاً للنداء ، ص33)
     وترمز للرزق (باليد)، وقد كررتها مراراً، تقول:
ما عادت يدي تنمو/كأعشاب الوطن(عطاف جانم، بيادر للحلم... يا سنابل، فورة فوق الحصار، ص48)
يدي في غيابك ما بعتها/ كنت أنذرتها
للجرار التي عاهدت في عصور الجفاف
على أن تظل السقاء لهذا الوطن
وقلت لها يا يدي:/ فلتكوني الحواء/ وكوني العزاء
وكوني السكن/يا يدي/ولتكوني الوطن( عطاف جانم، بيادر للحلم... يا سنابل، ليل المنافي، ص43)
     وترمز (عطاف جانم) للوطن بالعروس الجميلة، في قصيدة (لمن ستزف العروس الجميلة)، والتي أهدتها إلى كل البواسق الثابتة، وإلى المنارات الثائرة في بيرزيت وغزة والنجاح، تقول:
وكيف نغادر هذه العروس الجميلة .. كل البلاد رمتنا ( ؟!!)
لماذا المنارات تقدح ناراً؟/ لماذا تثور العروس الجميلة.. تغدو نشازا؟
وتخلص أشواقها للنجاح!/ وتوقد نحو كلاب المدينة ريح الموات
تصر الزيوت على أن تظل كمشكاة نور به يستضاء
وتبقى العروسة الجميلة/ لكل الجذور التي تلتقي... تتناسخ في قوة وائتلاف
                                 (عطاف جانم، لزمان سيجيء، لمن ستنزف العروس الجميلة، ص39-41)
     وفي نصها (تظلين سيدة الأمنيات) ترمز إلى (حيفا) (بسيدة الأمنيات)، وإلى (العدو) الذي استحوذ على كل مكان (بالجرذ)، تقول:
قد هان لحمك/ والجرذ خلفك... فوقك... تحتك
والجرذ قدام وجهك/ فأين تروحين!
إن الطريق لسيدة العشق والأمنيات
لتهتف: ويحك (عطاف جانم، بيادر للحلم يا سنابل، تظلين سيدة الأمنيات، ص 27 - 28)
     و(عطاف جانم) ترمز للإسرائيليين بـ( يهوه) تقول ساخرة:
ما دام ( يهوه) دافعاً نعليه في فوديك
فلتبشر بتحقيق الأرب (عطاف جانم، ندم الشجرة، واسجد واقترب، ص79)
     وهي ترمز لمسيرة الثورة الفلسطينية، بمسيرة (البراق)([10])، و(الصليب) رمز لكل الدول الاستعمارية الصليبية([11])، وتطلق على إحدى قصائدها عنوان (مسيرة البراق)، تقول:
من ثورة الحجارة الغناء غربنا
صار لنا جناح/ نحاول التحليق كنا
غير أنا/ لم نكن نقوى
ومثلما الأحلام ..... ذات عرس
شقشق الصباح/ تبشر الوهاد والبطاح
فجناحنا الثاني استوى
وها هو البراق رابض بالساح/ هذا هو الطود الذي
قد أربك الميزان ... من يحطم الموائد....الأقداح(عطاف جانم، ندم الشجرة، مسيرة البراق، ص 78)
     وترمز (شهلا الكيالي) للوطن بالأم والبرتقال، والشجر، تقول:
مقطوعة أنا منك/ يا شجري البعيد ( شهلا كيالي، عندما الأرض تجيء، الوحيدة، ص 21)
     وتبجل (الوطن) وتطلق عليه لفظ (الجبل) و(سيدتي)، تقول:
من خمسين عاماً تعكس المرآة سيدتي
وسيدتي تمشط شعرها/ تنثر عطرها للريح
تنام سيدتي على كومة القس(*[12])
                       ( شهلا الكيالي، خطوات فوق الموج- موال على خصر البحر، قميص يوسف، ص87).
     و(العدو) هو (الأفاعي والخفاش) عند (شهلا كيالي)([13]) والترميز بالخفاش للإشارة إلى العدو متكرر عند الشاعرات، ومن البداية كان عند (فدوى طوقان). و(العدو) (موج وطوفان)، تقول:
رفعت علي الطوفان رأسي ولم أزل
                  أكابد عمراً بالهيام سقيما ( شهلا كيالي، عندما الأرض تجيء، نحو الشمس، ص28)
والعدو (وسواس)([14])، و(رياح)، تقول:
أمسك بالمواسم والنذور/ وأخاف أن أغفو/ وأن يهوي الجبل
أو أن تغادره التضاريس التي/ زرعتها أغنية البداية
ثم يرتد الصدى نحوي/ وتبدو صورة الترحال ماثله
عدا جبلي/ كل شيء مال هزته الرياح
وأظل تحت ظلاله / ليصد جيش الريح عني
أموت ألف مرة/ ويظل حياً في فؤادي
لا يموت!!! ( شهلا كيالي، عندما الأرض تجيء، أتوحد مع هذا الجبل، ص 26-27)
      و(العدو) هو (الذئب) بالمفرد من اللفظ أحياناً، وبالجمع أحياناً أخرى([15])، وهو (الأفاعي) عند (رجاء أبو غزالة)، و(الوطن) هو (الشجرة والزنابق)، تقول:
وهوت الشجرة في الأرق،/ وحفرت زلازل الذئاب
كهوفاً للمتشردين والخائفين ( رجاء أبو غزالة، الهروب الدائري، حكاية الذئب المشبوهة، ص12)
    أما (الرجل) (فعطاف جانم) ترمز له (بالسيد)، تقول:
وجاء / هو السيد البحر جاء
وجاء / هو السيد البحر جاء (عطاف جانم، بيادر للحلم .. يا سنابل، قصة المعارج، ص19-25)
     وهي ترمز (للنساء بالمراكب) تقول:
المراكب بقمراتها الشاحبة
وأجسادها الغبراء المنسية/ ورغباتها المكنونة
مسترخية بكبرياء جريح
المراكب بكبريائها الجريح/ تقلب دفاتر مذكراتها
فكم كانت محظية الأمواج/ وطفلة الرياح المدللة
المراكب بقمراتها الشمطاء/ كلما قلبت دفاترها
جاءني نحيبها شاكياً/ يقطع الشارع حافياً/ أصفر .. نحيلاً
غير آبه برعونة السيارات/أو هرج السمك
أيتها المراكب الغبراء/ ما الذي جعلك تستحمين/ في هذا الصباح الربيعي
وتدلكين جسدك بماء الرياحين (عطاف جانم، ندم الشجرة، سلال المرحبا، ص 112-121)
     ونستطيع القول إن اللغة والثقافة تنتمي للبطريركية، وإن انتزاعها منهما كان فعلاً يتطلب أقصى الشجاعة والجرأة. وإذا كانت اللغة هي الملكية الخاصة للذكور فإن التجاوز عليها يعتبر خرقاً ولذلك كان ( الثلج) من رموز (صباح القلازين)، ولإثارة المتلقي تستخدمه الشاعرة بدلالة مضادة لمعناه، تخلق توتراً، يتفجر في نهاية النص، حين تستخدم الدال ( الثلج) وضده ( نار جهنم) وهي تعني بالحرارة حرارة الرجل وحميميته وحبه. ولكن على ما يبدو أنه لما كان ذلك يقع ضمن الخطوط الحمراء بالنسبة لها فقد رمزت له بالثلج. وقد استخدمت هذا الرمز عبر ديوانها (اعترافات متوهجة) في عدة نصوص وبالدلالة نفسها، مما يؤكد توظيفها إياه بالمفهوم نفسه، ودفعها المتلقي إلى اكتشاف هذا الرمز وإزالة النقاب عنه، تقول:
رغم جاسوس القبيلة في دمي/ رغم حجابي الكثار على فمي
             رغم قفلي/  رغم ليلي
رغم سلسلتي الخبيثة…/  تحت لحم المعصم
سأظل أعشق فيك ثلجاً/  مثل نار جهنم ( صباح القلازين، اعترافات متوهجة، توطئة، 4)
     كررت صباح الدال( رغم) للدلالة على تحدي العديد من الحواجز المفتعلة التي يخلقها المجتمع من مثل ( القبيلة، الحجب، القفل، الليل، السلسلة الخبيثة)، واستخدمت (السين) مع الفعل المضارع ( أظل) لتؤكد الاستمرارية، وأنها ستبقى تحب عشقه الملتهب.
     ثم ولمزيد من التكثيف لهذا الرمز تخصص (صباح القلازين) نصاً كاملاً تطلق عليه (الثلج)، حيث يمتد الثلج عبر حزمة من العلاقات المتداخلة، لتكوين نسيج متماسك، يشف عن مقصيدتها من الرمز، تقول:
وميض الثلج/ في فوديك يعجبني
وهمسك مثل عصفور/ جواري كم يكهربني/ ويزرعني ويحصدني
بريق الحزن في عينيك/ إذ يطفو/ فيمحوني ويكتبني
أحبك لست أعرف أين أو كيفا
لمحت الثلج في فوديك مختبئاً/ وقد أغفى
فجئت كمثل قبرة/ بها شوق
كماء البحر ملتطماً/ ولا يطفا
أجر شموعي العشرين آسفة/ لأن الثلج أيقظني
وأبكاني/ وأضحكني
وفي فوديك قد أغفى ( صباح القلازين، اعترافات متوهجة، الثلج، 39-40)
     بالرغم من أن الثلج مفردة عادية موجودة ضمن المعجم بمعناها العادي فإن الشاعرة قد وظفتها. ولم تستعرض (صباح القلازين) - وهي ابنة العشرين هنا - نفسها وجسدها أمام الرجل، وتتركه ليحدق فيها بل عبرت له عن رغبة حقيقية في ممارسة الحب، وأشارت إلى عدة مثيرات في محبوبها تشوقها له من مثل ( وميض الثلج، همسك، بريق الحزن). والتي أمامها تؤدي العديد من الأفعال المضارعة ( يعجبني، يكهربني، يزرعني، يحصدني، يمحوني، يكتبني، أيقظني، أضحكني، أبكاني، قد أغفى). لم تكن سلبية كما توصف المرأة دائماً، بل كان لها فعل ورد فعل.
     إن شعور المرأة في مرحلة مبكرة من الوعي بسطوة الثقافة الذكورية السائدة، يضطرها إلى استخدام أساليب تلك الثقافة ومحاكاتها في مواجهة هيمنتها. وتكتشف المرأة بتطور وعيها أن الثقافة السائدة تتعامل معها كموضوع. وفي مرحلة نضج الوعي تتحدى كتابة النساء الأفكار الجاهزة والمسلمات، ويؤدي اتساع مشاركة المرأة في الفضاء الثقافي إلى ظهور صوت مغاير لصوت الثقافة السائدة. ومن الطبيعي أن تشعر الثقافة السائدة بخطر هذا الصوت القادم. تسأل (فرجينا وولف) هل ستجد فنانة ذات موهبة حقيقية حرية للتعبير عن دوافعها وحاجاتها الداخلية وتحقق النجاح الفني؟ إنها لصعوبة كبيرة تواجه الشاعرات أمام كثرة الأسوار المشيدة أمامهن فظروف حياة المرأة تؤثر إلى حد بعيد في قدرتها على إنتاج الفن، ونوعية الفن الذي تبدعه.
     ومن رموز (صباح القلازين) ( هولاكو) (*[16]) والذي وظفته في نصها (مرثية لغسان كنفاني)، تقول:
هم يسدلون ستار حزن فوق أمداء العراق/ ويطل هولاكو المشعوذ فجأة
وشم بلون الدم لوث ساعديه/ ومعطف في جيبه اجتمعت ذيول الأرض
قاطبة تموء/ وألف شيطان مريد قد أفاق
هي خمس(*[17]) أنهار تسافر كالحجيج/ ونوارس عبرت سواحل عجزنا
ألقت عصا ترحالها فوق الضفاف غريبة
ونشيد أمي تحت أجنحة الضحايا كالنشيج
وتطل بغداد علينا/ مثل بكر تستغيث/ ملء قامتها السماء
ومقص هولاكو البغيض يجر ثانية ضفائرها/ المخضبة الجميلة في المساء
ويحتسي الخمر المعتق/ في كؤوس عيونها
وتباع بغداد بأسواق الإماء (صباح القلازين، اعترافات متوهجة، حزين كلانا يا عراق، ص 28)
     وهي ترمز (بهولاكو) لأمريكا، وقد كان لهولاكو سابق عهد في احتلال بغداد التي احتلت عدة مرات عبر التاريخ، وتصوره في الوقت الحاضر مشعوذاً تلوثت ساعداه بالدم. وتصور كل الدول وقد تحالفت معها بكل خنوع بصورة ساخرة، حيث تصورهم أنهم في جيبه، بل إنهم يموؤن كالقطط. وهي صورة تسخر من التابعين وتعكس جبروت القوي المسيطر. وتصور بغداد تستغيث مثل قبيلة بكر العربية في الماضي، وقد تحولت إلى أمة تباع في سوق الإماء بعد احتلال أمريكا إياها. وقد شبهت احتلال أمريكا إياها بقصه ضفائرها، رمز كرامة المرأة العربية، واستمتاعه بها أثناء شربه الخمر.
     ولقد وجدت بعض الرموز الأنثوية المبتكرة عند (سمية السوسي) التي في استخدامها الكثير من القيم الجمالية، مثل: (الحكاية)، تقول:
  أقفل الباب/ الخراف نائمة/ الحريق
نام قليلاً لترتاح الرياح/ يهزني المكان
نجمة دائرية تفتح خزينتي/ لك ما تريدين
                    لا أكمل الحكاية ( سمية السوسي، أبواب، بقية الحلم، ص 117)
     ترسم (سمية السوسي) مشهداً داخلياً ليلياً في غرفة تم إغلاق بابها على رجل وامرأة والأطفال نائمون، وتكثف المشهد كما السينما بلفظ واحد هو (الحريق)، والفعل(هزني المكان). ثم تقول وهذه عادتها دائماً لا أكمل الحكاية بعد أن تكون الحكاية قد فهمت ولا حاجة لإكمالها حيث لا داعي للاستطراد في نص الومضة المكثف. فالحكاية بعد أن وصلت لقمة الأزمة كان لا بد من سرعة إنهائها وإلا اعتبر رد الفعل المضاد للأزمة مضعفاً له، وثرثرة ضارة لا داعي لها.
     تلك الحكاية/ الجنس، الرمز الذي كانت كثيراً ما تقف معه عند حد معين ثم تعلن( لا أكمل الحكاية). فالبنى الاجتماعية التي شكلت الشاعرة تكبح التفكير، ولما تتحداها الشاعرات وتفكرن وتتخيلن فإنها تكبح التعبير. وتقول (سمية السوسي):
     حين يبدأ الحديث
تفكفك الغريبة أزرار شهوتها، ترتدي إزارها المرمري
تحلم بنصف حكاية/ بصياد يلقنها أنوثة المعاني
وبعض التفاصيل اللازمة لاجتياز النهار
ما أصعب تفسير الكلام/ حين يكون أول ما يميزه
                الرغبة في الغرق(سمية السوسي،أول رشفة من صدر البحر، ما لم تقله الجدة، ص 53)
     ومع الحكاية/ الجنس وظفت رمزاً آخر من رموز الحكاية وهو (الحديث)، وهو دال هنا يحمل معنى الكلام في الحكاية، والحديث فعل ممهد لإقامة علاقة غرامية، واستخدمت الدال( الخزينة ) يحمل كرمز في إيحاءاته وتلميحاته معاناة المرأة، ووظفت (الغرق) كرمز مكثف للعلاقة الجنسية ستعود لاستخدامه في مواقع أخرى. وهي تصور المرأة هنا تكتفي بنصف حكاية، فهي غاية حلمها. وأنها تحلم بالرجل/ الصياد - وهذا رمز للرجل - يشعرها بأنوثتها.
ثانياً- الأسطورة:
     الأسطورة "من الفعل الثلاثي (سطر)، ويسطر سطراً وسطره : كتبه، سطّر: ألف الأساطير، وسطر القرطاس: رسم عليه خطوطاً يحتذيها في الكتابة لأجل استقامة الأسطر. والعامة تقول: "سطر العبارة" أي كتبها، و "سطر القارئ" إذا انتقل من السطر الذي قرأه إلى ما بعد السطر الذي يليه، وسطر عليه: جاءه بأحاديث تشبه الأباطيل وزخرفها له، وأسطر:أخطأ في قراءته السطر:الخط والكتابة.. والسطر (ج) أسطر وسطور وأسطار و(جج) أساطير: الصف من الشيء كالكلمات والشجر. يقال " كتب سطراً وغرس سطراً من بنائه"، والسطر: الأقاويل المنمقة المزخرفة، الأسطورة (ج) أساطير : الحديث الذي ما لا أصل له"([18])، ويفهم من الدلالة المعجمية أن الأسطورة تتضمن عنصري التخييل وعدم الصحة.
     وفي الشعر الجاهلي " عرف العرب الأساطير لفظاً ودلالة، قال عبد الله بن الزبعري:
                 ألهى قصياً عن المجد الأساطير   ورشـوة مثلما تـرشى السفاسير
                 وأكـلها اللحم بحتاً لا خليط له    وقـولها رحلت عيرٌ أتت عيرُ(*[19])
     ولقد جاءت لفظة " الأسطورة " في القرآن الكريم في تسع آيات([20]) احتوتها تسع سور جميعها مكية، ما عدا الأنفال وفيها لفظ أسطورة ليس بالضرورة أن يكون مفهوماً من الكتب، وإنما ما يأتي به القرآن الكريم في مزاعم المشركين من الأحاديث ( الأباطيل) التي تدوولت عن الأقدمين، وهي روايات وأخبار لا يـوثق بـها( أولاً)، وليست وحياً ( ثانياً)، وهي مقتبسة عن الأقدمين ( ثالثاً)، فضلاً عما تحويه الإشارة من وجود فكرة الآلهة المتعددة والحساب والعقاب بالأسطورة، لأن سياق الآيات المتحدثة عن الأسطورة يدل على أنهم كانوا يقارنون بين ما جاء به القرآن الكريم من دعوة للتوحيد، أو دعوة للإيمان"([21]).
     كلمة " الأسطورة " هي ما يعبر عنه الأوروبيون بـ " الميثولوجيا"([22]). ويخيل إلينا أن هذا خلط بين ما يعرف بـ " علم الأساطير" الذي يقابله في المصطلح الأجنـبي "Mythology " المتكون من مقطعين: " Myth.  و Logo "، أو مجموعة الأساطير بخاصة المتصلة بالآلهة، وأنصاف الآلهة والأبطال الخرافيين عند شعب ما، كلمة " Myth " الإنجليزية التي تعني أسطورة أو خرافة،([23]) تحديداً المأخوذ عن " الأصل اليوناني" "Myths " وهي نفسها " Myth" " والمعنى الشيء المنطوق، والعلاقة بين هاتين الكلمتين، وكلمة "Mouth " أي (فم) واضحة([24])، أي أن لفظة " أسطورة " تقابلها في كثير من اللغات كلمتا :"Myth " أو " Myths "، وذلك يفسر لنا دواعي تعريف رولان بارت " للأسطورة " بأنها "كلمة"([25]).
     لقد " ساهم اثنان من كبار مفكري العصر في بث الحياة من جديد في المفهوم الأدبي للأسطورة، وهما كلود ليفي شتراوس (Claude Levi-Strauss) ورولان بارت، فقد ناقشها الأول في كتابه The Savage Mind) ) مناقشة مستفيضة ليرسي بذلك مفهوم الأسطورة باعتبارها ضرباً من التفكير الذي يستند إلى عناصر تقع في " منتصف الطريق بين المدركات والمفهومات" ( 1972، ص 18) وهذا يختلف اختلافاً بيناً عن النظرة التقليدية للأسطورة التي عرفها روبرت شولز (Robert  Scholes) وروبرت كيلوج (Robert Kellogg) في كتابهما " طبيعة القصة" The Nature of Narrative.
     والتحول في مفهوم الأسطورة من الحبكة إلى طريقة للتفكير ذات علاقات شبه وثيقة بالأيدولوجيا (رغم الاختلافات القائمة فيما بينهما) يؤكده رولان بارت في كتابه الذي أحدث تأثيراً واسع النطاق عنوانه " أساطير" Mythologies ( 1973).
     والإنجاز الكبير في هذا الكتاب هو التقريب بين الأساطير والحياة المعاصرة، وإشعار القراء " أن الأساطير لا تقتصر على ما آمن به وأبدعه الآخرون، أو ما أبدعته شعوب أخرى غريبة عنهم (مثل قبائل أقاصي أفريقيا أو الفلاحين الروس أو قدماء اليونان) بل هي جزء لا يتجزأ من مادة الحياة الحديثة في الغرب ونسيجها"([26]).
     أما عند العرب فلقد لجأ الشعراء العرب إلى الأسطورة وفي ذلك قال السياب: " نعيش في عالم لا شعر فيه، أعني أن القيم التي تسوده، قيم لا شعرية   إذن فالتعبير المباشر عن اللاشعر لن يكون شعراً. فماذا يفعل الشاعر إذن؟ عاد إلى الأساطير، إلى الخرافات التي ما تزال تحتفظ بحرارتها لأنها ليست جزءاً من هذا العالم، عاد ليستعملها رموزاً، كما أنه راح من جهة أخرى، يخلق له أساطير جديدة ([27])"
     لقد " ارتبط شعر السياب ارتباطاً كبيراً بالأسطورة وأفاد من شحنتها إفادة تعمق من رؤيا القصيدة وتشدها إلى النسيج التعبيري. وكانت استخدامات السياب الأسطورية تلويحة لجيل من الشعراء ليجربوا هذا العالم الغني بالرؤى والتفاصيل. إن قصائد السياب وأدونيس وخليل حاوي ويوسف الخال وصلاح عبد الصبور كانت فتحاً جديداً على هذا الصعيد. وقد استطاع هؤلاء الشعراء أن ينجزوا أعمالاً شعرية متميزة، تعبر عما في واقعنا العربي من آمال ومخاوف برؤى أسطورية شديدة البهاء والكثافة "([28]).
     وقد استدعت الشاعرات الأسطورة متدرجة في استخدامها من كونها رمزاً جزئياً بسيطاً، إلى نسجها مع النص في نسيج متضافر، ينقل النص من أصوله القديمة إلى مرجعيات جديدة، ولكنهن لم يصلن إلى مرحلة جعل الأسطورة العمود الفقري للنص واندماجها كجزء لا يتجزأ من نسيج النص البنائي([29]).    
     وقد وظفت الشاعرات بعض الرموز الأسطورية مثل (العنقاء، والغول، والتنين). كما في توظيف (عطاف جانم) لأسطورة (التنين) من التراث الإغريقي في نصها، تقول:
أيها التنين مهلاً/ كفك المحدود لن يحجب شمسا
لن يزيل الخال عن وجه عريق (عطاف جانم، لزمان سيجيء، وأصاخ الكون سمعاً للنداء، ص 32)
     لقد كان (التنين) رابضاً على مدخل المدينة ( طيبة) يحاول تعجيز البشر، في أسطورة (أدويب) فيلقي على كل من يحاول دخول المدينة لغزاً(*[30])، ومن لا يعرف الحل يقوم التنين بافتراسه، حتى بات التنين لعنة، والشاعرة تجعل التنين هو العدو وله كف، فالعدو كف مؤذية تلطم ويقابله مخرز دائماً، هو المقاومة والمقاومة خال في الوجه العريق الأصيل.
     و(الغول والعنقاء والخل) الوفي هي ثلاثية المستحيلات منذ قديم الزمان، وقد تناصت الشاعرات مع العنقاء والغول في أعمالهن، فقد وظفت عطاف جانم (الغول) في قصيدتها التي أهدتها إلى روح عبد الله الردوني، تقول:
تراني فررت من النعش/ لما تحاذى ونور ببابك
فزلزلني الضوء/ والغول حولي(عطاف جانم، ندم الشجرة، أبانا بصنعاء، ص 64-65.)
     و(الغول) هنا هو العدو الصهيوني الذي يحيط بالشاعرة من كل جانب. وتتناص الشاعرات مع العنقاء تقول (فاتنة الغرة):
كما العنقاء يا ولدي/ستحمل فأسك الموروث عن جدك
وتحرث أرض أحفادك..وتزرعها سنابل عشق  (فاتنة الغرة، امرأة مشاغبة جداً، أريدك حيا، ص 14)
     تشبه بذلك عودة الشهيد بعودة العنقاء(*[31]) بعد احتراق رمادها من الموت والتحول من الرماد إلى الحياة مرة أخرى. وهي فكرة الانبعاث والتي تتخذ لها رموزاً من مثل العنقاء (**[32]) والنورس وفيها يتمثل انبعاث الميت المخلص واستمرار وجوده، فهو كلما صار رماداً أو جسداً ميتاً، انبعث على هيئة تلك الطيور مرة أخرى، وبعودته تعود الحياة، ويعود الخير بكل أصنافه وأنواعه، ويعود الخصب.
     وتتناص الشاعرات مع أسطورة العنقاء من التراث الفينيقي، وفي مفارقة معها تصور الشاعرة لنا العنقاء لا تستطيع أن تعود، حيث أنها تكتشف أن ريشها كان ريشاً كاذباً، تقول:
ووحدي أدور/ أدور أأوب!!!
فتبيض عيني/ وآوي لعلي أجئ المغار
بريح الطيوب / فإذ بالمغار يفور رجالاً
أعد أعد/ ثلاثين أكبر
كما قال جدي:
تزيده بعشرة/ ألوذ بصمتي
فعنقاء جاءت/ بريش كذوب!!              ( شهلا كيالي، عندما تجيء الأرض، ريح الجنوب، ص 68)
     ولا نشعر بالنفور من استخدام الشاعرات الأدب الشعبي الفلسطيني في نصهن، فلقد جاء جزءاً لا يتجزأ من النص، منسوجاً بدقة متناهية، ومتناسباً مع سياقه. موحياً بلون محلي ضروري.
     وتتناص (عطاف جانم) مع (العنقاء)، وذلك في عنوان قصيدتها ( الرياح تبوح بعنقائها)([33])، وكذلك (فاتنة الغرة) في نصها ( العنقاء تبعث من جديد)، تقول:
لا شيء بعدك والجنون../ لا شيء إلا ..
أن أكون../ وأن أكون
يبعث العنقاء في نبضي ..
ويرجع ساعة التاريخ ( فاتنة الغرة، ما زال بحر بيننا، العنقاء يبعث من جديد، ص40)
     فهي تصور الشهيد الذي لا يموت بل يحيا عند الله بالعنقاء التي تعود، فهو يعود وفي عودته تعود لها الحياة، والزمن يعود لها.
     والشاعرات كالشعراء يستدعين كل ما من شأنه أن يسهم في إثراء القصيدة لديهن، يقول (عز الدين إسماعيل) عن استخدام المأثور الشعبي من قبل الشاعر "والمأثور الشعبي بشخوصه ووقائعه مادة حية في ضميره يتمثلها أبعاداً روحية وفكرية تعكس لنا وجوده بأزماته وتطلعاته"([34]). وفي قصيدة أخرى تقول (فاتنة الغرة):
عنقاء ترتاح قليلاً ( فاتنة الغرة، ما زال بحر بيننا، العنقاء تبعث من جديد، ص87)
     وتستدعي (صباح القلازين) (العنقاء) في نصها ( لا زلت في طائر العنقاء)، تقول:
من هذا الواقف على حواف العمر؟
كسرب نخيل أخضر/ يساقط وجعاً
وجرحه مفتوح على مصراعيه/ ويتجدد كعنقاء الرماد
من هذا المندس بين خصلات القلب الناضحة تعبا؟
يتلفع ماء المطر في هذا اليباس/ وعنقه مشرئب كسيف الريح
من هذا القادم من فيافي الروح المترعة بالظمأ؟
ويحمل عصا يديه عصا موسى/ ويعدني بالمطر/ من هذا الغرائبي؟
يمضي إلى منفاه / متعباً كأبي ذر
سامقاً كنخل العراق/ مكتظاً برائحة الأرض إلى آخره
ويتلاشى في الغياب ( صباح القلازين، نوافذ، لا زلت في طائر العنقاء، ص63 – 64، 65)
    استدعت (صباح القلازين) أسطورة العنقاء منسوجة في نصها، حتى باتت جزءاً لا يتجزأ منها، وضفرت معها ثيمة عصا موسى التي كان يضرب بها فيتحول الشيء تحتها من حال إلى حال، كما تحولت عصا موسى إلى ثعبان تلقفت ثعابين أعدائه.
   وهي تصور محبوبها بعد أن تقدم بالسن يعود كالعنقاء ويحل في القلب مرة أخرى، وتصوره كموسى معه عصا يضرب بها حتى يسقط المطر، كما ضرب موسى فانفلق له البحر. ولكنها تصفه يعود إلى الغياب مرة أخرى. وكل تلك الأساطير التموزية تغييب. وتتلاشى في العالم السفلي، منتظرة زمن الخصب والصعود.
     وتصور (أنيسة درويش) المجتمع البطريركي والرجل في امتلاك المرأة بأنه قدر المرأة، تقول:   كيف لم يخطر ببالي / أنت من بعض الرجال
وأنا امرأة/ فينوس أم فيحاء
نوار .. امتُلكت/ لم أبالي
وأنا التي كنت أنادي/ بتحرير النساء/بالمساواة
وكسر القمقم والغطاء... ( أنيسة درويش، و..أهون عليك، أقدار السماء، ص 55)
     والشاعرة توظف (فينوس) ربة الجمال عند الرومان، التي عشقت القنّاص أدونيس وتدلّهت في حبه حدَّ أن نسيت كبرياءها، ونسيت أن للحب مقوّماتٍ أخرى غير الفتنة الخاوية فضاع منها المحبوب. وهي كاملة الأوصاف والمقاييس الجسدية الأنثوية.
     وكما نسيت فينوس فقد نسيت الشاعرة تملك الرجل للمرأة، فهو الرجل وهي المرأة. وذلك قدرها كما تعلمت ذلك وورثته من خلال التربية. وتعجب كيف نسيت ذلك وهي التي تدافع عن حقوق المرأة، وتطالب بتحررها من القمقم الذكوري.


([1]) مصطفى ناصف، الصورة الأدبية، دار الأندلس، ط3، بيروت، 1983، ص 152-153. وانظر: محمد مندور، الأدب ومذاهبه، نهضة مصر للطباعة، د.ت. ص117-125.
([2]) عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، ط6، 2003، ص172.
([3]) فدوى طوقان، الأعمال الكاملة، الطوفان والشجرة، ص 16-19.
([4]) فتحية إبراهيم صرصور، الخصائص الأسلوبية في شعر فدوى طوقان، ص 109.
([5]) انظر: عطاف جانم، لزمان سيجيء، ص38 40.
(*[6]) إشارة إلى أول سفينة حملت المهاجرين اليهود إلى ميناء حيفا.
(*[7]) الزنيم: الدعي اللئيم، الملحق بقوم ليس منهم.
(**[8]) بيت العنكبوت باللهجة الفلسطينية.
([9]) عطاف جانم، لزمان سيجيء، عنقود الذرة، ص27، 33. وهنا أيضاً رمزت للعدو بالخفافيش. وقد استخدمت (فدوى طوقان) هذا الرمز بالمعنى نفسه.
([10]) عطاف جانم، ندم الشجرة، مسيرة البراق، ص77_78.
([11]) المرجع السابق، تقاطع، ص67.
(*[12]) أعتقد أن هذا خطأ مطبعي وأن الكلمة هي القش.
([13]) شهلا كيالي، خطوات فوق الموج - موال على خصر الحجر، أصابع الصغار ترسم الوطن، ص57.
([14]) شهلا كيالي، عندما تجيء الأرض، مفردات ص77.
([15]) عطاف جانم، لزمان سيجيء، تجندل قانون الحجر، ص11.
(*[16]) هولاكو خان (1217-1265) هو حفيد جنكيز خان وأخ كوبلاي خان ومونكو خان. هولاكو ابن تولي- ومن أم مسيحية - أرسل من قبل أخيه مونكو في عام 1255 لإكمال ثلاث مهمات في جنوب غرب آسيا. الأولى: كانت لإخضاع قبيلة اللُر- أناس في جنوب إيران، من ما يسمى لرستان -، ثانيا: تدمير طائفة الحشاشين، وثالثا: تدمير الخلافة العباسية في بغداد. سار هولاكو مع أكبر جيش مغولي لم يتم تجميعه من قبل، واستطاع أن يدمر قبيلة اللُر بسهولة، ومن خلال سمعته الرهيبة استطاع أن يجعل الحشاشين يستسلموا إليه دون أية معركة. اعتزم هولاكو دائماً الاستيلاء على بغداد واستخدم في ذلك الأمر رفض الخليفة في ذاك الوقت. وقد أرسل رسالة مفادها: عندما أقود جيشي إلى بغداد في حالة غضب، سأقبض عليك سواء اختبأت في الجنة أو في الأرض . سأحرق مدينتك وأرضك وشخصك. إذا كنت حقاً تريد حماية نفسك وعائلتك الموقرة، أسمع نصيحتي، وأن أبيت ذلك فسترى مشيئة الله فيك.
     لم يكن الخليفة العباسي يعرف ما هو العمل ضد غزو هولاكو لبلاده، فدافع بضعف عن بغداد. "ويذكر تاريخياً أن سبب ضعف جيشه كان بسبب مشورة أحد وزرائه وهو ابن العلقمي ". وعندما سقطت بغداد، أمر هولاكو بتقسيمها إلى عدة أقسام حسب سكانها - مثال لذلك وضعه المتعلمين والمسيحين في أحد الأقسام - وقد قتل على الأقل 250,000 منهم " يقال انه قتل تقريبا 800,000 = من سكان بغداد" . بعد ذلك،  قتل هولاكو الخليفة العباسي بأن لفه بسجادة وجعل يوسعه ضرباً ودهساً من الخيول. وفي حكاية أخرى، تحدث ماركوبولو عن أن هولاكو أجاع الخليفة حتى الموت لكن لا يوجد دليل لذلك. مات هولاكو خان في عام 1265. وقبر في مكان غير معلوم في أذربيجان.
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%87%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%83%D9%88_%D8%AE%D8%A7%D9%86
([17]) الصحيح خمسة.
([18]) المنجد في اللغة والأعلام، دار المشرق، بيروت، ط23، ص332.
(2) عبد الله بن الزبعري، تحقيق د. يحي الجبوري، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2 ،1981م، ق11/ص37.
([20]) منها: " يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين" ( الأنعام:25)
    " إن هذا إلا أساطير الأولين" ( المؤمنون:83)
    " وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا" ( الفرقان:5)
([21]) أحمد إسماعيل النعيمي، الأسطورة في الشعر العربي قبل الإسلام، سينا للنشر، ط1، 1995، ص 25. 
(5) انظر: محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ( سطر): 5/127.
([23]) انظر: المورد "  Mythology ".
([24]) انظر: أحمد كمال زكي، الأساطير، دراسة حضارية مقارنة، ص 56-57 مع الهامش.
([25]) رولان بارت، الأسطورة اليوم، ت. حسن الغرفي، ص5. عن أحمد إسماعيل النعيمي، الأسطورة في الشعر العربي قبل الإسلام، سينا للنشر، ط1، 1995، الفصل الأول بتصرف.
([26]) محمد عناني، المصطلحات الأدبية الحديثة، الشركة المصرية العالمية للنشر- لونجمان، ط1، 1996، ص58-59.
([27]) حاتم الصكر، مرايا نرسيس، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 1999، ص107، نقلاً عن عبد الرضا علي:دراسات في الشعر العربي المعاصر.
([28]) علي جعفر العلاق، الشعر والتلقي – دراسات نقدية، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 1997، ص 18.
([29]) انظر: ميّ عمر نايف، الخطيئة والتكفير والخلاص، الخطاب الشعري عند الشاعر محمد حسيب القاضي، (دراسة نصانية)، دار الأرقم، غزة-فلسطين، 2003، الفصل الثالث ( التناص).
(*[30]) وهو( ما الشيء الذي يمشي أحياناً على قدمين، وأحياناً أخرى على أربع، وأحياناً ثالثة على ثلاث).
(*[31]) العنقاء رمز مدينة غزة، ومازالت تحتفظ به حتى الآن كشعار للبلدية.
(**[32]) العنقاء، طائر أسطوري ضخم، يقال إنه اتخذ اسمه من عنقه الطويل، وفي رواية أخرى من طوق أبيض حول عنقه. وثمة روايات عربية أخرى تقرن بينه وبين عنقاء مغرب وطائر الفوينيكس. وتربط الأسطورة بين العنقاء وأصحاب الرس المذكورين في القرآن الكريم. وعلى الرغم من أنه يفترض بصفة عامة أن هذا الطائر لم يوجد إلا في الماضي السحيق فإن الدميري يقول إنه قرأ في كتاب المؤرخ الفرغاني أن عنقاء كانت تشاهد بين حيوانات أخرى غريبة في حديقة الحيوان في عهد أحد الخلفاء الفاطميين. ويبين الوصف الذي أورده لهذا الطائر أنه يسير إلى نوع من الطيور الخواضة التي توجد في صعيد مصر. وتذهب الأسطورة إلى أنه يظهر للناس كل خمسمائة عام. (د. عبد الحميد يونس، معجم الفلكلور، ص 167).
([33]) عطاف جانم، ندم الشجرة، الرياح تبوح بعنقائها، ص107.
([34]) عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر، دار الفكر العربي، ط3، ص36.

Post a Comment

Previous Post Next Post