( أهمية التجارة في الإسلام )
تعتبر التجارة
وسيطاً نافعاً بين الصناعة والزراعة ، ويقوم المستهلك والتاجر بترويج البضاعة
وتسويقها ، ومن ثم تيسير الحصول عليها وهي خدمة للطرفين وانتفاع عن طريق هذه
الخدمة . وانتفاع يعتمد على المهارة والجهد ويتعرض في الوقت ذاته للربح والخسارة .
** يقول ( محمد عفر ) في شأن أهميتها :
( ومن أهمية قطاع
التجارة لتنمية الإنتاج الزراعي والصناعي بتوفيره للمواد الخام وتسويقه للمنتجات
وتوفيره للمال اللازم لتحويل العمليات الإنتاجية . ولذا فالعناية به كما دعانا
الإسلام توفير للمناخ المناسب للتتنمية في المجتمع ) ([1])
.
** التجارة عمل منتج في الإسلام :
مما لا شك فيه أن
الإسلام ينظر للتجارة على أنها عمل منتج إذ بدونها لا يمكن أن تتحرك أي وسيلة من
وسائل الإنتاج ([2])
.
يقول غريب الجمال :
( إن التجارة
منتجة وتعطي الإنتاج قيمته بتوفيره وجعله في متناول المستهلك المحتاج إليه ) ([3]) .
فتدول التجارة بين
الأفراد داخل الدولة وخارجها له دور كبير في زيادة الإنتاج ، وتحسينه ليسعد بالتالي
كل فرد من أفراد الدولة ويجد حاجاته الأساسية والكمالية ميسرة أمامه ، حيث أباح
الله التجارة وممارستها في كل زمان ومكان ، " وأحل الله البيع وحرم الربا
" ([4])
، وأقر كثيراً من المعاملات وشجعها وسن من الأنظمة ما يحميها كما سيأتي ذلك مفصلاً
. وأعطى الإسلام للفرد حق الملكية الفردية حتى يستطيع أن ينمى أمواله بالطريقة
التي يستطيعها، وحتى تحصل المنافسة الشريفة في زيادة الإنتاج كما سبق ذكره في بحث
العمل ورأس المال .
ولم يقيده إلا بما
فيه مصلحة المجتمع . قال تعالى بشأن حق الفرد أن يمتلك أهم وسائل التجارة –ألا وهو
رأس المال المحرك الأمامي لها- : ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة ) ([5]) . فنسب المال إلى الإنسان
.
وقال تعالى
–مقيداً رأس المال بما فيه مصلحة المجتمع- : ( ولا تؤتوا السفاء أموالكم التي جعل
الله لكم قياماً)([6]).
وهكذا يتبين أن التجارة في الإسلام منتجة إذا وجهت حسب تعاليم الشريعة السمحاء .
** التجارة عمل غير منتج عند الاشتراكيين :
الاشتراكيون يرون
أنها عمل غير منتج ولا يصح للأفراد أن يقوموا بالاتجار وامتلاك رؤوس الأموال
العاملة في التجارة ، إذ يعتبرون هذا استغلالاً لطبقة العمال وهم أساس المجتمع ([7]) .
المبحث الأول
(الأدلة على اهتمام الإسلام بالقطاع التجاري )
وتحته عدة مطالب :
** المطلب الأول : (الأدلة من القرآن ) :
حث القرآن الكريم
في كثير من آياته على طلب السعي في الأرض والابتغاء من سبيله وذلك لطلب الرزق من
الطرق المباحة كالتجارة ونحوها .
قال تعالى : ( وآخرون يضربون في الأرض يبتغون
من فضل الله ) ([8])
.
يقول ابن عباس في
تفسيرها :
( وآخرون يضربون :
أي يسافرون في الأرض بالتجارة وغيرها يطلبون رزق الله ([9]) .
وقال النسفي في
تفسيره أن المقصود بالابتغاء من فضل الله أنه للتجارة وطلب العلم ([10]) .
ومن اهتمام القرآن
ذكر كثيراً من أحكامها ، قال تعالى : (ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى
أجل مسمى فاكتبوه ، وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) إلى قوله تعالى : (ولا تسأموا أن
تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا
ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح إلا تكتبوها ) ([11]) .
فالآيات صريحة في
طريقة التعامل التجاري في حالة الدين وفي حالة الحضور ، ففي حالة الدين إلى أجل
لابد من الكتابة ، وأما إن كانت التجارة حالة فلا يشترط الكتابة . وإن ذكر هذا
التفصيل عن التجارة لهو من اهتمام القرآن بالتجارة وأحكامها .
ولما كان البيع من
أهم مقومات التجارة ، وهو العنصر الفعال في تحريكها فقد اهتم به القرآن وذكره في
كثير من المواطن :
قال تعالى : (
وأحل الله البيع وحرم الربا ) ([12]) . فوجه الدلالة من الآية
، أن الله أحل التعامل التجاري بين الناس ، إذا كان هذا التعامل التجاري بين الناس
متمشياً مع قواعد البيع الصحيحة .
** يقول القرطبي :
( في قوله تعالى : ( وأحل الله البيع ) : هذا من عموم القرآن والألف واللام للجنس
، وهو مخصوص بما حرم من سائر المعاملات كالربا ، وبيع الخمر والميتة وحَبَل
الحَبَلة وغير ذلك مما هو ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة ) ([13])
.
ومن الأدلة على
مشروعية التجارة والدعوة إلى ممارستها من القرآن ما يأتي :
( يا أيها الذين
آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراص منكم ولا تقتلوا
أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ) ([14]) .
ففي الآية دلالة
صريحة على مشروعية التجارة ، إذا سارت في الطرق الصحيحة من عدم أكل أموال الناس
بالباطل ، أي بغير الحق كالقمار والغرر ونحوها . ومتى كانت هذه التجارة عن تراض
–أي رضى- من الطرفين ، بتحري الصدق وإعطاء فرصة للخيار بين البائع والمشتري ([15])
.
وقوله تعالى : (
وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ) ([16]) .
فالشاهد أن القرآن
لفت أنظار التجار إلى الطريقة المثلى لمن أراد ممارسة التجارة بأن يلتزم العدل
الاقتصادي فيما يأخذ أو يعطي عن طريق الوزن . وذلك حتى يستمر التعامل الحسن بين
المسلمين ، فتزداد ثرواتهم ويكثر إنتاجهم وتستقر أوضاعهم مما ينعكس أثره على الفرد
والجماعة والدولة المسلمة.
** ومن الأدلة على مشروعية القرآن للتجارة :
قوله تعالى : (
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) ([17]) .
فدل ظاهر الآية
على أن التجارة إذا لم تله عن ذكر الله فهي مشروعة مندوب إليها وفي المراد بذكر
الله : يقول ابن الجوزي في تفسيره : أن المراد بذكر الله أحد ثلاثة أوجه :
أحدها : الصلاة المكتوبة .
الثاني : عن القيام بحق الله (قاله قتادة ) .
الثالث : عن ذكر الله باللسان ([18])
.
وكلها أوجه محمودة
.
وقال الله تعالى
في شأن البحر : ( وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ) ([19])
.
وقد بوب البخاري
حول هذه الآية باباً يحمل ( باب التجارة في البحر ) ، وساق هذه الآية وجاء برأي
مجاهد حول فوله : ( مواخر فيه ) وأنها تمخر السفن الريح ولا يحصل ذلك إلا للسفن
العظام ([20])
.
ومعلوم الابتغاء
من فضل الله في البحر إما لنقل تجارة من مكان إلى آخر أو لصيد الأسماك واستخراج
اللآلئ والأصداف وذلك للتجارة بها .
وذلك كله يدل على
مشروعية التجارة وندب القرآن إليها .
** المطلب الثاني : ( الدليل من السنة ) :
قوله صلى الله
عليه وسلم : " التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء " ([21]) . فالشاهد من الحديث :
بيان ما للتاجر
المتصف بهذه الصفات من المنزلة الرفيعة ، ففيه لفت نظر إلى مشروعية التجارة من حيث
المبدأ ، وحث المتعامل بها على الصدق والأمانة ، حتى يكون التعامل التجاري مبنياً
على هذه الصفات الحسنة ، ليستمر الاستقرار الاقتصادي . ومن ثم يزداد الإنتاج وتكثر
الثروة مما تنعكس فوائده على الفرد والجماعة .
** وقد قال صلى الله عليه وسلم : " اللهم بارك لأمتي في
بكورها " ([22])
.
** وقد دعا الرسول –صلى الله عليه وسلم- للتاجر الذي يتسامح
حالة بيعه وفي حالة شرائه وفي حاله اقتضائه لدينه أو بضاعته .
فعن جابر –رضي
الله عنه- أن رسول الله –صل الله عليه وسلم- قال : " رحم الله رجلاً سمحاً
إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى " ([23]) .
فظاهر الحديث يدل
على فضل التاجر الذي يتصف بهذه الصفات الجميلة .
** يقول صاحب فتح الباري : ( في الحديث الحض على السماحة في
المعاملة واستعمال معالي الأخلاق وترك المشاحنة والحض على ترك التضييق على الناس
في المطالبة وأخذ العفو منهم ) ([24]) .
** وقوله صلى الله عليه وسلم : " اتجروا في أموال اليتامى
، لا تأكلها الزكاة " ([25]) .
فالشاهد من الحديث
: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- دعا إلى ممارسة التجارة لصالح هؤلاء اليتامى حتى
تزداد ثروتهم وتتنامى . ولا تتعرض للنفاد بأخذ الزكاة عليها إذا كانت مجمدة .
ولقد باشر صلى
الله عليه وسلم التجارة بنفسه عندما تاجر بأموال السيدة خديجة إلى الشام ، مع
غلامها ميسرة([26])
. وذلك قبل البعثة الشريفة ، ولما بعث صلى الله عليه وسلم انشغل بالرسالة عن
التجارة ، ولكنه صلى الله عليه وسلم اشتغل بها قليلاً ليعلم أمته جوازها . فقد باع
صلى الله عليه وسلم قبعاً وحلساً ([27]) .
** اشترى الجمل من جابر واشترط عليه حملانه ([28]) .
** واشترى ناقة من أرعابي وأوفاه ثمنها ، ثم جحد الأعرابي ،
وقال : هلم شاهداً ، قال صلى الله عليه وسلم : " من يشهد لي ؟ " ، فقال
خزيمة بن ثابت : أنا أشهد لك ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : " من شهد له
خزيمة فحسبه " ([29]) .
** شراء الرسول –صلى الله عليه وسلم- بالنسيئة :
( عن عائشة –رضي
الله عنها أن النبي –صلى الله عليه وسلم- اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل ورهنه
درعاً من حديد ) ([30])
.
* ودل ظاهر الحديث على مباشرة الرسول –صلى الله عليه وسلم-
للشراء من هذا التاجر اليهودي فدل الحديث على أمور مهمة بالنسبة للتجارة :
أولاً : مشروعية التجارة والبيع والشراء .
ثانياً : جواز الشراء إلى أجل وقد قال ابن
بطال : ( الشراء بالنسيئة جائز بالإجماع ) .
ثالثاً : جواز التعامل مع أهل الكتاب شراءً
وبيعاً ([31])
.
** وقال ابن عمر
–رضي الله عنهما- اشترى النبي –صلى الله عليه وسلم- جملاً من عمر ، واشترى ابن عمر
بنفسه .
وقال عبد الرحمن
بن أبي بكر –رضي الله عنهما- : ( جاء مشرك بغنم فاشترى النبي –صلى الله عليه وسلم-
منه شاة ، واشترى –صلى الله عليه وسلم- من جابر بعيراً ) ([32]) .
** المطلب الثالث :
( نظرة الصحابة ومن بعدهم للتجارة ) :
* لا عجب إذا عمل في التجارة معظم الصحابة . لا سيما أبو بكر
وعثمان –من الخلفاء الأربعة- ولولا انشغالهم بالفتوح لظلت تجارتهم مستمرة قوية .
* وهذا عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وابن مهران
وابن سيرين : ( كانوا بزازين)([33]) .
* وروى ابن سعد بإسناد مرسل –رجاله ثقات- قال : ( لما استخلف
أبو بكر أصبح غادياً إلى السوق على رأسه أثواب يتجر بها ، فلقيه عمر بن الخطاب
وأبو عبيدة بن الجراح فقالا : كيف تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين ؟ قال : فمن أين
أطعم عيالي ؟ قالوا : نفرض لك ، ففرضوا له كل يوم شطر شاة ) ([34])
.
* وعن أم سلمة – ( أن أبا بكر خرج تاجراً إلى بصرى في عهده صلى
الله عليه وسلم ([35])
.
** ومن التجار في عهده صلى الله عليه وسلم عمر –رضي الله عنه-
:
ففي الصحيح في
قضية استئذان أبي موسى الأشعري على عمر ورجوعه واستدلاله لرجوعه بما خفي على عمر
من الأثر ، فقال عمر : ( أخفي علي من أمر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ؟ ألهاني
الصفق في الأسواق – يعني الخروج إلى التجارة- ) ([36]) .
** ويقول عمر : ما جاءني أجلي في مكان ما عدا الجهاد في سبيل
الله أحب إلي من أن يأتيني بين شعبتي رحلي أطلب من فضل الله . وتلا قوله تعالى : (
وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ) ([37]) .
** تجارة عثمان –رضي الله عنه- :
ومن التجار أمير
المؤمنين عثمان بن عفان :
قال ابن قتيبة في
المعارف – في صنائع الأشراف : كان عثمان بزازاً .
* وقال ابن عبد البر : ( إنه –رضي الله عنه- جهز جيش العسرة
بتسعمائة وخمسين بعيراً وأتم الألف بخمسين فرساً ) . وكل هذه الأموال عن طريق
البزازة التي اشتغل بها ([38]) .
** تجارة طلحة –رضي الله عنه- :
ذكر قتيبة في
المعارف وابن الجوزي في التلبيس : ( أن طلحة بن عبيد الله كان بزازاً ) .
وذكر الزبير أنه
سمع سفيان بن عيينة يقول : ( كانت غلة طلحة بن عبيد الله ألفي واقية كل يوم،
والواقي وزنه وزن الدينار وكان له ألف مملوك يؤدون له الخراج ) .
** ومن التجار في عهده صلى الله عليه وسلم ( سماك بن حرب ) .
** ومن التجار عبد الرحمن بن عوف يعد من البزازين ([39]) .
** مباشرة الصحابة للتجارة في الأسواق :
قال : عبد الرحمن
بن عوف : لما قدمنا المدينة قلت : هل من سوق فيه تجارة ؟ فقالوا : سوق قينقاع ،
وقال أنس قال عبد الرحمن دلوني على السوق .
** النسوة التاجرات في عهده صلى الله عليه وسلم :
يقول في التراتيب الإدارية : ( جاء في ترجمة قيله الأنمارية من
الإصابة عنها من تخريج ابن ماجة : قلت يا رسول الله إني إمرأة أشتري وأبيع ) ([40]) .
المطلب الرابع : ما روي عن العلماء في الحس على التجارة :
عن أبي بكر المروزي : سمعت رجلاً يقول لأحمد بن حنبل إمام
الزاهدين : إني في كفاية ، فقال : إلزم السوق
تصل به الرحم ، وتعود به .
وأخبرنا أبو بكر
المروزي ، قال : سمعت أبا عبد الله ( يعني أحمد ) يقول : قد أمرتهم ( يعني ولده)
أن يختلفوا إلى السوق وأن يتعرضوا للتجارة .
وعن محمد بن الحسن
أن الفضل ابن زياد حدثهم قال : ( سمعت أبا عبد الله – أحمد بن حنبل – يأمر بالسوق
ويقول : ما أحسن الإستغناء عن الناس ) ([41]) .
أخبرنا أبو بكر
المروزي : قلت لأبي عبد الله : سفيان الثوري في أي شيء خرج إلى اليمن ؟ قال: خرج
للتجارة ([42])
.
** عن مجاهد في قوله تعالى : ( أنفقوا من طيبات ما كسبتم ) ([43]) – قال التجارة .
وقسم ابن العربي
في تفسيره أنواع السفر وذكر منها :
1-
سفر
المعاش : فإنه قد يتعذر على الرجل معاشه مع الإقامة فيخرج في طلبه لا يزيد عليه
ولا ينقص ، من صيد أو إحتطاب أو احتشاش أو استئجار وهذا فرض عليه .
2-
سفر
التجارة والكسب الكثير الزائد على القوت : وذلك كله جائز بفضل الله سبحانه ، قال
الله تعالى : (ليس عليكم جناح أن تبتغوا
فضلاً من ربكم ) يعني التجارة ، وهذه نعمة
من الله بها في سفر الحج فكيف إذا انفردت ([44]) ؟
*** ما ورد في ذم التجارة والإجابة عن ذلك :
قوله تعالى : ( وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها ) ([45]) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن التجار هم الفجار ، قيل يا
رسول الله : أليس قد أحل الله البيع ، قال بلى ، ولكنهم يحدثون فيكذبون ، ويحلفون
فيأثمون ) ([46])
.
* وقوله صلى الله عليه وسلم : ( يامعشر التجار ، فاستجابوا
لرسول الله ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه ،
فقال : إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله وبر وصدق )([47]).
** الإجابة عن الأدلة :
يقول محمد المبارك
في قوله تعالى : ( وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها ) : إنه لا ينبغي أن
تكون التجارة شاغلة للإنسان عن العبادة وذكر الله ([48]) .
ويقول صاحب المختصر في الإجابة عن الأحاديث :
( إنهم فجار لما
كان الغالب عليهم ذلك ، فلم يكن العموم مراداً ، والعرب قد تطلق على الجماعة مدحاً
أو ذماً والمراد به بعضهم ، قال تعالى : (وأنه لذكر لك ولقومك ) ([49]) ، ([50]) .
*وسائل تنشيط التجارة :
تمهيد :لم يترك الإسلام الناس يتصرفون وفق
مصالحهم الشخصيه على حساب المصلحه العامه وإنما وضع لهم
قواعد وأسساً ثابتة لابد من اتباعها
والسير على هداها ؛وبما أن التجارة قد شرعت في الإسلام وتعد من مصادر دخل الفرد
وزيادة ثروته ولاغنى للناس عنها في كل زمان ومكان ؛ فهي من أهم الوسائل لتبادل
المنافع والسلع وأنه بقدرماتستقرالمعاملات التجارية وتنتظم ؛بقدرما تكثرالثروة
ويزيد الإنتاج إذيحل التعاون والترابط بين المنتجين والمستهلكين .
ويجني ثمار ذلك الأستقرار الأقتصادي كل
فرد من أفراد الدولة الإسلامية باستمرار ضمان حاجاته الأساسية من مأكل ومشرب وملبس
ومسكن وغيرها بأسعار تناسب دخل كل فرد .
ولاغرابة أن قررت الشريعة الإسلامية
القواعد العامة التي تنشط التجارة بين المتعاملين ؛حيث تكلم فقهاء الشريعة عن
المعاملات التي تعطي التجارة دفعة قويه إلى الأمام .
وتكلموا عن القواعد التي تحمي التجارة
والمعاملات التجارية في الداخل والخارج من الإنحراف الذي يؤدي بها إلى الهبوط
والكساد ؛الذي يشمل حركتها ويجعل المتعاملين بها لا هم لهم إلا المشاكل والمحاكم .
فنتيجة لذلك يقل الإنتاج وترتفع الأسعار لقلة المعروضات .
ومن ثم يحصل الشلل الاقتصادي الذي ينعكس
أثره السيء على كل فرد من أفراد المجتمع . وسأتكلم عن أهم وسائل تنشيط التجارة وعن
أهم الوسائل التي تحمي التجارة والمعاملات التجارية .لكل منهامبحث خاص ملتزماً
جانب الدليل ما أمكنني ذلك من كتاب الله وسنة رسوله e ؛ مبنياً على آراء علماء
الشريعة وفقهائها ؛ موفقاً بينهم في بعض المسائل الخلافية إن وجدت ؛ مختاراً الرأي
الذي يكون أقرب للدليل ولحل مشاكل الناس في معاملاتهم حسب التفصيل الآتي .
*( المطلب الأول :تشريع البيع ) :
لماكان البيع أهم عناصر التجارة ومقوماتها وبدونه تكسد التجارة إذ كيف تتم المبادلات التجارية والمعاوضات
إلاعن طريق البيع والشراء ؛فمن هنا جاءت الأدلة مصرحة بابإحة البيع من كتاب الله وسُنة رسوله e .
وكلما كان البيع والشراء
موافقاً للقواعد العامة في الشريعة الإسلامية سارت المعاملات التجارية إلى الطريق
الأفضل ؛واستقرت المعاملات التجارية فينعكس أثر ذلك على زيادة الثروة وكثرة
الإنتاج .[51]
*الدليل من القرآن على مشروعية البيع :
قال الله تعالى :)وأحل
الله البيع ([52]
؛ فهذه الآية أصل في جواز البيع الإما استثني بيعه في الكتاب والسنة ؛ كبيع الغرر
والنجش ونحو ذلك من البيوع المحرمة .
*يقول القرطبي (إن هذا من عموم القرآن والألف
واللام للجنس لا للعهد ؛وهذا العام مخصوص بما حرم من أنواع البيوع كالربا ؛وبيع
الخمر والميتة وحبل الحبلة وهو مذهب أكثر الفقهاء )[53]
*وقوله تعالى ) وأشهدوا إذا تبايعتم [54]( : فالاية دلت على
مشروعية البيع ؛ولفت أنظار المسلمين إلى الشهادة خشية التنازع والنسيان .
*وقوله تعالى ) إذانودي للصلاة من يوم
الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ([55].
فالآية صريحة بجواز البيع قبل النداء ليوم الجمعه ؛ وإنما طلب منهم ترك البيع بعد
النداء ليتأهبوا للصلاة وذكرالله.
*ومن السنة:
قوله e :"البيعان بالخيار مالم يفترقا ؛فإن صدقا
وبينا بورك لهما في بيعهما ؛ وإن كذبا وكتمامحقت بركة بيعهما "[56]
فقد نص الحديث على ذكر البيع مما يفهم منه
مشروعية البيع في المعاملات التجارية وأنه الوسيلة لتبادل المنافع والمصالح بين
آحاد الناس .
*يقول شمس الدين الشربيني (من الشافعية )
البيوع ثلاثة أشياء أو أربعة أشياء :
بيع عين مشاهدة : فهذا جائز لانتفاء الغرر .
بيع شي موصوف في الذمة /فجائز إذا وجدت
الصفة .
وبيع عين غائبة لم تشاهد ؛فلا يجوز للنهي
عن الغرر ؛ ثم قال :( ويصح بيع كل شيء طاهر منتفع به مملوك
)[57]
ويقول الباجوري (في هامش الأقناع )[58]:
البيوع _هذا هو القسم الثاني من أركان
الشريعة حيث أن بعثة الرسل هدفها انتظام أحوال العباد في المبدأ والمعاد ؛ولايتم
بتمام قواهم المنطقية والشهوية والغضبية ولاتتم القوىإلاببيان الأحكام المتعلقة
بها .
فإن تعلقت الأحكام بتمام القوى المنطقية
فهي العبادات ؛وإن تعلقت بتمام القوى الشهوية فإن كانت شهوة بطن فأحكامها
المعاملات . وإن كانت شهوة فرج فأحكامها المناكحات ؛وإن كانت الأحكام لتمام القوى
الغضبية فأحكامها الجنايات .
فكلما كان البيع خالياً من الربا
والمعاملات المحظورة فما على المسلم إلا أن يمارسه بدون أدنى تحرج في ذلك .
*يقول الحافظ في الفتح :
(والحكمة تقضيه ؛لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في
يد غالباً صاحبه ؛لايبذله ففي تشريع البيع وسيلة إلى بلوغ الغرض من غير حرج ) .[59]
*(المطلب الثاني :إباحة التجارة في الحج )
:
لم يقتصر الإسلام على مشروعية التجارة في
الحالات العادية ؛ بل أمتد ذلك التشجيع ووصل ذروته السماح للمسلمين أن ينقلوا
بضائعهم وأسواقهم إلى أماكن العبادة والجهاد في سبيل الله .
وذلك حتى يزداد إنتاجهم وتكثر ثرواتهم
ويكونوا بحق أقوى ُأمة في كل شيء ؛ فقد شرع لهم البيع في موسم شريف من مواسم
العبادة ؛ألاوهوالحج ؛ وذلك عندماتحرج المسلمون من التعامل التجاري في هذا المكان
والزمان
ففيه الترخيص لمن حج أن يتاجر ويبحث عن
الفضل المذكور في قوله تعالى :)فضلاً
( .
*يقول الشوكاني :( إن الآية ترخيص لمن حج
في التجارة ونحوها من الأعمال التي يحصل بها شيء من الرزق .وقد رفع الله الإثم عمن
حج وخلط حجه بالتجارة )[61]
.
*وقد روي عن الشافعي في تفسيره لهذه الآية
:(أن المراد أن تتجروا في الحج ؛وليس حتماً أن تتجروا؛فدل على إباحة التجارة في
الحج )[62]
يقول ابن عباس في شأن الآية : (أنها نزلت
في أناس كانوا لايرون البيع والشراء وأنواع التجارة في الحرم ؛فرخص الله لهم بطلب
التجارة في الحرم وفي الأيام الحرم )[63]
.
[51]
البيوع :جمع بيع وجمع لاختتلاف أنواعه ؛والبيع نقل ملك إلى الغير بثمن .والشراء
قبوله ويطلق كل منهما على الآخر .قال ابن حجر في فتح الباري ؛ج4 ؛ص287
[52]
سورة البقرة آية 275 .
[53]
القرطبي ج3 ص 256
[54]
سورة البقرة آية 282
[55]
سورة الجمعة آية 9
[56]
فتح الباري ج5 ص 328 الطبعة السلفية .
[57]
الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ؛شمس الدين الشربيني ج1 ص 251 الناشر :دار المعرفة
بيروت
[59]
فتح الباري شرح صحيح البخاري ج4 ص 287.
[60]
سورة البقرة آية 198 .وأنظر فتح الباري
كتاب التفسير باب 24 .
[61]
ينظر تفسير الشوكاني ؛فتح القدير ج1 ص201 ط:الثانيه
[62]
أحكام القرآن ؛الشافعي ج1 ص91 ط 1395هجري .
[63]
تنوير المقباس من تفسير ابن عباس ص 27 الناشر دار الكتاب العلميه بيروت .
إرسال تعليق