وسائل
حماية الزراعة في الشريعة الإسلامية
وتحته عدة مطالب :
** المطلب الأول
: تحريم اغتصاب الأرض الزراعية :
تمهيد
:
لم تكتف الشريعة بتشجيع الزراعة والحث عليها
بل وضعت الوسائل الكفيلة بتنظيم القطاع الزراعي وحمايته كي لا يتعثر الإنتاج
الزراعي وهو في طريق النمو .
وعلى كل فكل مشكلة متصورة الوقوع سواء كانت
تخص الزرع أو المزارع مع أخيه المزارع ، فقد وضع لها الإسلام الحل الشافي وسارع في
حسم الداء في الحال حتى يضمن زيادة الإنتاج الزراعي واستمرارية وصوله إلى
المستهلكين .
وحتى لا يتعثر الإنتاج الزراعي ولا يصاب
ببطء الحركة والنمو ، بينت الشريعة ما يحق للفرد أن يقوم بزراعته من الأراضي
الزراعية وهي الآيلة إليه ما يأتي :
1-
الإرث
.
2-
الإحياء
الشرعي .
3-
الإقطاع
الشرعي .
4-
الشراء
الشرعي.
5-
ونحو
ذلك من أسباب الملكية الشرعية كالهبة ونحوها .
وما عداها فمحرم
عليه . وذلك كمن يعتدي على أرض ليست له فيزرع فيها .
** أولاً : تحريم الغصب في القرآن :
قوله تعالى : (
ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) ([1]) . فمن وضع يده على
أرض ليست له وصاحبها أحق بها فلا شك أنه معتد يستحق العقوبة وتسحب منه الأرض
بالحال .
** ثانياً : من السنة المطهرة :
لقد حذر المصطفى
–صلى الله عليه وسلم- من يتعدى على أرض الغير بدون إذنه مادام محقاً لها وجعل
عقوبته عند الله عظيمة يوم القيامة ، ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بهذا التهديد
والوعيد بل باشر الحكم بنفسه لإعادة الأرض إلى مستحقيها وإليك الأدلة :
1-
قال
رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : " لعن الله من سرق منار الأرض " ([2]) .
2-
وقد
عقد مسلم باباً تحت عنوان ( من ظلم من الأرض شبراً طوقه من سبع أرضين ) .
ثم سرد الحديث : ( عن عروة بن الزبير –رضي الله عنه- أن أروى
بنت أويس ادعت على سعيد بن زيد –رضي الله عنه- أنه أخذ شيئاً من أرضها فخاصمته إلى
مروان بن الحكم ، فقال سعيد : أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعت من رسول
الله صلى الله عليه وسلم؟ قال : وما سمعت من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ؟ ،
قال : سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم يقول : " من أخذ شبراً من الأرض
ظلماً طوقه إلى سبع أرضين " ، فقال مروان : لا أسألك بينة بعد هذا ) ([3]) .
فالشاهد من هذين
الحديثين شدة الوعيد لمن اعتدى على أرض ليست له . وهدف الرسول –صلى الله عليه
وسلم- من هذا الوعيد هو ألا يعتدي أحد على أرض الغير فتكون المشاكل التي يؤثر على الإنتاج
الزراعي وتعيقه . ولم يكتف (صلى الله عليه وسلم) بالوعيد الأخروي بل وضع قاعدة
عظيمة في الأحكام الشرعية وهي أن صاحب الحق أحق بحقه ولو بعد حين وذلك عندما قال
في الحديث الثالث من أحاديث تحريم الاعتداء على الأرض الزراعية ما يأتي :
3-
"
من أحيا أرضاً ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق " ([4]) .
4-
ما
روي عن الزبير عن أبيه قال : قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : " من أحيا
أرضاً ميتة لم تكن لأحد قبله فهي له وليس لعرق ظالم حق " قال : فلقد حدثني
صاحب هذا الحديث أنه أبصر رجلين من بياضة يختصمان إلى رسول الله –صلى الله عليه
وسلم- في أرض لأحدهما غرس فيها الآخر نخلاً فقضى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-
لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله ، قال فلقد رأيته يضرب في أصول النخل بالفؤوس وإنه لنخل عم([5]) .
فالشاهد من الحديث
، أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- لم يقر الغاصب للأرض الزراعية إنما بادر إلى
إزالة أذاه ، وذلك زجراً له وحتى لا يعتدي غيره على مزارع الآخرين . وذلك كله
حماية للقطاع الزراعي حتى لا يصاب بالانكماش وقلة الإنتاج نتيجة المشاكل بين
المزارعين .
** ثالثاً : آراء العلماء في اغتصاب الأرض الزراعية :
أ- ما قاله الشوكاني : باب تملك زرع الغائب بنفقته وقلع غرسه :
عن رافع بن خديج
أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال : " من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له
من الزرع شيء وله نفقته " ([6]) .
وعن عروة بن
الزبير أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال : " من أحيا أرضاً فهي له وليس
لعرق ظالم حق " .
ولقد أخبرني الذي
روى الحديث : أن رجلين اختصما إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- غرس أحدهما
نخلاً في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها ،
قال : فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفؤوس وإنها لنخل عم ([7]) .
ب- قال الكاساني : في حديث " وليس لعرق ظالم حق " :
إن الحديث روي
منوناً ومضافاً . فالمنون هو أن تنبت عروق أشجار إنسان في أرض غيره بغير إذنه
فلصاحب الأرض قلعها حشيشاً ([8]) .
جـ- ما قاله أبو يوسف :
يقول أبو يوسف في
كتاب الخراج : ( لو أن رجلاً احتقر بئراً ونهراً أو قناة في أرض لرجل بغير إذنه
فله أن يمنعه من ذلك)([9]) .
** وورد في المدونة الكبرى لمالك –رحمه الله- :
( لو أن رجلاً عصب
أرضاً فغرس فيها شجراً فاستحقها ربها ، قال رحمه الله : يقال للغاصب : اقلع شجرك
إلا أن يشاء رب الأرض أن يأخذها بقيمتها مقلوعة ([10]) . وليس للغاصب أحذ
شيء من نحو تراب ردم به ونحو ذلك ) (5) .
** ويقول الشافعي :
( ولو غصب أرضاً
فغرسها قلع غرسه ويرد ما نقصت الأرض ) ([11]) .
***** ***** *****
المطلب الثاني :
** تنظيم حقوق الارتفاق الزراعي :
لم يترك الإسلام
المزارعين يتصرفون وفق مصالحهم الشخصية على حساب مصالح الآخرين ، لما يتسبب عن ذلك
من مفاسد ينعكس أثرها السيئ على الإنتاج الزراعي .
ولذلك نظم الإسلام
هذه الارتفاقات وحماها ليعرف كل مزارع ما له وما عليه حتى نضمن استمرارية الإنتاج
والعطاء .
ومن ذلك : حق السقي والشرب .
وحق المجري في أرض الغير .
وحق حريم الآبار والأنهار ونحو ذلك .
أ- حق السقي والشرب :
تعريف الشرب :
الشرب لغة : عبارة عن الحظ والنصيب من الماء ([12]) . قال الله تعالى :
(قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ) ([13]) .ففي الآية دلالة على
جواز قسمة الشرب بالأيام . وبها استدل محمد (رحمه الله ) في كتاب الشرب لجواز قسمة
الشرب بالأيام .
وقد عرفها الشرع :
عبارة عن حق الشرب والسقي ([14]) .
ب- يقول في بدائع الصنائع :
إن الأنهار العظام
كسيحون ودجلة ، لا ملك لأحد فيها ولا في رقبة النهر ، وكذا ليس لأحد حق خاص فيها
ولا في الشرب بل هو حق لعامة المسلمين ، فلكل أحد أن ينتفع بهذه الأنهار بالشفة
والسقي وشق الأنهار منها إلى أرضه . وليس للإمام ولا لأحد أن يمنعه إذا لم يضر
بالنهر ، وله أن ينصب عليه رحى ونحوها ما لم يضر بأحد . ولو كان هناك شركاء في نهر
يشربون منه وكان الأعلى منهم لا يشرب إلا على منع الأسفل من الشرب فهذا لا يجوز
إلا أن تراضيا على أن يشرب كل في نوبته فيجوز .
ولو أراد أحد
الشركاء أن ينصب على النهر المشترك رحى ونحوها نظر فيه فإن كان لا يضر بالشرب
والنهر وكان موضع البناء أرض صاحبه جاز وإلا فلا ، لأن رقبة النهر وموضع البناء
ملك بين الجماعة على الشركة وحق الكل متعلق بالماء فلابد من رضا الشركاء ولذلك ليس
لأحد الشركاء أن يسحب منه لأرض له أخرى إلا برضاهم، كما لو أراد أحدهم أن يزيد في
ماء النهر ليس له ذلك إلا برضاهم ([15]) .
** ويقول كذلك :
( ويسقي كل واحد
من الشركاء على قدر شربه ولو اختلفا في قدر الشرب ولا بينة لأحدهم تحكم الأرض
فيكون الشرب بينهم على قدر أراضيهم ويعتبر عدد الرؤوس ) ([16]) .
جـ- ويقول أبو يوسف في شأن عدم حبس ماء السيل :
حدث محمد بن إسحاق
، رفعه إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- قال : " إذا بلغ الوادي الكعبين لم
يكن لأهل الأعلى أن يحبسوه عن أهل الأسفل " .
حدثنا أبو عميس (
عن القاسم بن عبد الرحمن عن عبد الله بن مسعود أنه قال : أهل الأسفل من الشرب
أمراء على أعلاه حتى يردوا ) .
حدثنا أبو معشر عن
أشياخه رفعه إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- : ( أنه قضى في الشراب من ماء المطر
إذا بلغ الكعبين أن لا يحبسه الأعلى على جاره ) ([17]) .
- يقول ابن الهمام في مسألة الشرب :
إن كان لرجل نهر
أو بئر أو قناة فليس له أن يمنع شيئاً من الشفة .
والشفة : الشرب لبني آدم والبهائم ([18]) .
هـ- رأي الإمام ابن حزم –رحمه الله- :
يقول : ( كل من
ملك ماء في نهر حفرة أو ساقية أو عين أو بئر فهو أحق بماء كل ذلك ما دام محتاجاً
إليه . ولا يحل له منع الفضل بل يجبر على بذله لمن يحتاج إليه . ولا يحل له أخذ
عوض عنه ) ([19])
.
ويقول –رحمه الله-
: ( فحكم الشرب من نهر غير متملك فيشرع السقي للأعلى فالأعلى ، لا حق للأسفل حتى
يتوفى الأعلى حاجته ) ([20]) .
و- رأي الشوكاني :
يقول الشوكاني : (
إن الأحق بالري الأعلى ثم الأدنى ، حتى يتسنى لكل المزارع الشرب ، ويمسكه الأعلى
إلى الكعبين ثم يرسله إلى من تحته ولا يجوز منع فضل الماء ليمنع به الكلأ ) ([21]) .
ويؤيد ما قاله
الشوكاني : ما روي عن عبد الله بن الزبير أنه اختصم هو وأنصاري فقال صلى الله عليه
وسلم : " اسق يا زبير ، ثم أرسل الماء إلى أخيك " ، فغضب الأنصاري ثم
قال : يا رسول الله إن كان بن عمتك ، فتلون وجه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ثم
قال : " اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر " ([22]) .
** وما روي عن محمد بن إسحاق يرفعه إلى النبي –صلى الله عليه
وسلم- : " إذا بلغ الوادي الكعبين لم يكن لأهل الأعلى أن يحبسه عن أهل الأدنى
" ([23])
.
ز- رأي الدهلوي :
ومن الأدلة على أن
الأعلى أحق بالماء ثم ينتقل طبيعياً دون بيع أو منة إلى من بعده قوله صلى الله
عليه وسلم ، فيما روي عنه أنه " نهى عن بيع فضل الماء " ([24]) .
** يقول الدهلوي –رحمه الله- : ( يدل الحديث على تحريم بيع فضل
الماء وهو الفاضل عن كفاية صاحبه سواء كان للشرب أو لغيره ) .
وصورة المسألة أن
يبيع في أرض مباحة ماء فيسقي الأعلى ثم يفضل عن كفايته ، فليس له المنع([25]).
هكذا نجد الإسلام
أمر أن يشرب من في العلو من الماء ثم بعد أن يفيض عنده يتركه يسيل على من دونه
وهكذا ، وذلك كي تستفيد أكبر كمية من المزارع من هذا الماء الذي يجرف معه الطمي ،
والذي بدوره يعتبر مفيداً للزراعة ومنمياً لها ، وهكذا اقتضت حكمة الشريعة أن حمت
المزارع بمرور الماء على أكبر كمية منها .
ب- حق المجرى والمرور في الأراضي الزراعية :
هو أن يكون لإنسان
الحق في إجراء الماء في ملك جاره إلى ملك نفسه . وقد تكون رقبة المجرى مملوكة له
أو يكون له حق الإجراء فقط .
حق المرور : أن
يكون لشخص الحق في أن يمر من ملك جاره إلى ملكه وحده أو بدوابه ونحوها، وقد يكون
له ملك الطريق الذي يمر وسط ملك جاره أو يكون مشتركاً بينهما فقط أو بينهما وبين
غيرهما .
** حق المسيل : أن يكون لشخص حق تصريف المياه الزائدة في وسط
ملك جاره ([26])
.
أولاً : فعل عمر –رضي الله عنه- :
( يروى أنه كان
للضحاك أرض فأراد أن يشرع فيها نهراً من العريش فلم يقدر إلا أن يمر في أرض محمد
بن مسلمة ، فأبى محمد بن مسلمة أن يدعه ، فقال له الضحاك : تشرب منه أولاً وآخر ،
فلم يفعل . فأتى الضحاك عمر –رضي الله عنه- فذكر ذلك له فكلّم محمد بن مسلمة وقال
: أترك ابن عمك فأبى محمد ، فقال عمر : بلى ولو على بطنك ) ([27]) .
** آراء العلماء في ذلك
:
أ- يقول ابن تيمية :
( ولو احتاج إلى
إجراء ماء في أرض غيره من غير ضرر يصاحب الأرض فهل يجبر على قولين للعلماء –وهما
روايتان عن أحمد . والأخبار بذلك مأثورة عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- ، (فقد
قال لأحد المتخاصمين عندما امتنع عن إجراء الماء على أرضه –قال والله ليجرينها ولو
على بطنك ) ([28]) .
** ويقول ابن رجب الحنبلي في شأن حق المجرى : ومنها إجراء
الماء في أرض غيره إذا اضطر إلى ذلك في إحدى الروايتين لقضاء عمر ز قال الشيخ تقي
الدين :
( وكذلك إذا احتاج
أن يجري ماء في طريقه مثل أن يجري مياه سطوحه أو غيرها في قناة لجاره أو يسوق في
قناة عد به ماء ثم يقاسمه جاره ) ([29]) .
ب- رأي أبي يوسف :
يقول –رحمه الله-
في الخراج :
( لو أن رجلاً له
نهر في أرض رجل فأراد صاحب الأرض أن لا يجري النهر في أرضه فليس له ذلك . ولو أن
يجري الماء على بطن المانع . واحتج بما فعله عمر –رضي الله عنه- مع محمد بن مسلمة
) ([30])
.
وهذا هو رأي يحيى
بن آدم ([31])
.
** وقد عقد البخاري باباً حول هذا الموضوع فقال : ( باب الرجل
يكون له ممر أو شرب في حائط أو نخل )([32]) .
جـ- يقول الإمام محمد أبو زهرة حول تنظيم مسألة المجرى :
لا يحق لصاحب
الأرض التي يمر عليها المجرى أن يمنع صاحب المجرى منه ، فلصاحب المجرى حق السقي من
مجراه الذي يمر على أرض جاره ، وإن كان المجرى ملكاً مشتركاً لأصحاب الأراضي التي
تحيط به فالقواعد العامة التي تتفرع عنها أحكام هذا النوع من المجاري هي أنه ليس
لواحد من الشركاء أن يتحكم في ماء المجرى حتى يحتجزه عن غيره .
وليس لواحد منهم
أن يتصرف تصرفاً يضر بحافة المجرى أو يعمل به عملاً من شأنه أن يحول طريقه أو يؤثر
فيه وأن ما يتفقون عليه في سبيل تنظيم السقي وتوزيع النوبات والمياه محترم واجب ([33]) . ثم يتابع أبو
زهرة كلامه قائلاً: وعلى ضوء هذه القواعد السابقة تتعلق بعض الأحكام الآتية بشأن
المجاري :
1-
لا
يجوز تكسير المجرى حتى يسقي أرضه لأن ذلك يمنع الماء عن من هو أسفل منه ، ولكن إن
تراضوا على ذلك فلا مانع .
2-
لا
يجوز لأحد منهم أن يشق من المجرى مجرى صغيراً أو ينصب عليه رحى أو يوسع فتحة
المجرى .
3-
اتفق
الشركاء على نوبات زمانية للسقي نفذ ذلك ، وكان لكل منهم شربه المعلوم وزمنه
المحدود ([34])
.
جـ- تحديد حريم الآبار والأنهار والأراضي الزراعية
:
ما قاله العلماء
في ذلك :
** أولاً : ابن الهمام : يقول : ( وحريم القناة بما
يصلحها والشجرة تعرض في أرض موات لها حريم أيضاً حتى أنه ليس لأحد أن يغرس في حريمها
) ([35])
.
** ثانياً : يقول ابن قدامة في (الكافي) :
( ومن حفر بئراً
في موات ملك حريمها –والمنصوص عن أحمد –رضي الله عنه- : أن حريم البئر البري خمسة
وعشرون ذراعاً من كل جانب .ومن سبق الي بئر عادية فاحتفرها فحريمها خمسون ذراعاًمن
كل جانب- لما روي عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- : " السنة في حريم البئر
العادي خمسون ذراعاً والبري خمسة وعشرون ذراعاً وحريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع من
نواحيها كلها " ([36]) .
وأما العين
المستخرجة فحريمها ما يحتاج إليه صاحبها ويستضر بتملكه عليه وإن كثر ، وحريم النهر
ما يحتاج إليه لطرح كرايته وطريق سانيته ) ([37]) .
** ثالثاً : ما قاله الكاساني :
( من حفر
بئراً في أرض موات يكون لها حريم . إذ
حريم العين خمسمائة ذراع بالإجماع وبه نطقت السنة . قال – صلى الله عليه وسلم –
" للعين خمسمائة ذراع وحريم بئر العطن أربعون ذراعاً وبئر الناضح ستون ذراعاً
"
* أما حريم النهر : عند أبي يوسف : قدر نصف بطن النهر من كل
جانب وعند محمد قدر جميع بطن النهر من كل جانب ([38]) .
* وسئل مالك عن حريم بئر ماشية أو بئر زرع أو غيرها من الآبار
قال : ( ليس للآبار حريم محدود ولا للعيون إلا ما يضر بها ) ([39]) .
** رابعاً : (ما قاله أبو يوسف ) :
يقول أبو يوسف :
إذا احتفر رجل بئراً في مفازة في غير حق مسلم ولا معاهد كان له مما حوله أربعون
ذراعاً إذا كانت للماشية .
فأما إن كانت
للناضح فله من الحريم ستون ذراعاً وبئر العطن هي الماشية التي يسقي منها الرجل الماشية
ولا يسقي منها المزارع الزرع ، وكل بئر يسقي منها الزرع بالإبل فهي بئر الناضح .
** روى أبو يوسف عن الحسن بن عمارة عن الزهري قال : قال رسول
الله –صلى الله عليه وسلم- : " حريم العين (50) ذراعاً ، وحريم البئر الناضح
(60) ذراعاً ، وحريم بئر العطن (40) ذراعاً عطناً للماشية " .
** وحدثنا إسماعيل بن مسلم عن الحسن أن رسول الله –صلى الله
عليه وسلم- قال : " من حفر بئراً كان له مما حولها (40) ذراعاً عطناً لماشيته
" .
* حدثنا شعيب بن سوار عن الشعبي أنه قال : (حريم البئر (40)
ذراعاً من ههنا وههنا ، لا يدخل عليه أحد في حريمه ولا في مائه ) ([40]) .
** خامساً : ( ما قاله الشوكاني ) :
أنه حدد طريق
المزارع سبعة أذرع لكي يتسنى الخروج والدخول بكل سرعة وحرية وأمان . يقول الشوكاني
: ( فلو تشاجر الشركاء في عرض الطريق كان سبعة أذرع . لقوله صلى الله عليه وسلم :
" وإذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع " ([41]) ) ([42]).
** وذكر ابن هبيرة في الإفصاح عن مالك والشافعي أنه ليس لذلك
حد مقدر . والمرجع فيه إلى العرف ([43]) .
** سادساً : ما قاله محمد بك :
المراد بحريم
البئر : حقوقها ومرافقها من جميع جهاتها وكذا غيرها من العيون والآبار والقنوات
والأشجار وجملة القول أن هذه الأشياء إما أن تكون في أرض موات أو في أرض مملوكة
لأربابها . أو في أرض مملوكة لغير أصحابها([44]).
فإن كانت في أرض
موات ( حريم الغير ) فمن كل جانب أربعون ذراعاً ، حريم العين : (500) ذراعاً من كل
جانب ، وحريم النهر الكبير : حريمه من كل أطرافه مقدار نصفه فيكون مقدار حريمه من
جانبيه مساوياً عرضه . حريم الشجرة : خمسة أذرع من كل جانب .
** رأيي في المسألة :
ومما سبق يتبين
لنا من أقوال العلماء أن الأمر فيه متسع ، حيث يخضع الحريم للآبار والأنهار
والمزارع وطرقها بما يحقق المصلحة وعدم المضايقة .
فاختلاف الزمان
والمكان والعرف ربما يكون له دخل بما يحقق المصلحة الفردية والجماعية . كما يقول
مالك والشافعي . إذ هدف الإسلام حماية الأراضي من الاعتداء ومن مضايقة بعضهم بعضاً
لدعم الإنتاج وزيادة النماء الزراعي .
***** ***** *****
( المطلب الثالث )
:
** تحريم بعض أنواع المعاملات والإنتاج في القطاع الزراعي :
وتحته فروع :
الأول : تحريم بيع الثمرة قبل بدء صلاحها :
تمهيد :
تحرص الشريعة أشد
الحرص على أن يسود التفاهم بين عموم الناس حتى ينعكس أثر ذلك على استقرارهم
وبالتالي يتعاونوا لدعم التنمية وزيادة الجهد ليتضاعف الإنتاج والنماء .
ولما للنزاع من
مساوئ تؤخر عملية الإنتاج والنماء ، فقد وضعت الشريعة أصولاً وقواعد لما يجب أن
يمشي عليه الناس وذلك في كل مجال من مجالات الحياة ومنها ، القطاع الزراعي .
فقد حرص الإسلام
على ألا تباع الثمرة أياً كان نوعها قبل نضجها وذلك خشية النزاع والمطالبات أمام
القضاء.
وهذا يدل على
اهتمام الشريعة بهذا القطاع الزراعي حيث وضعت الوسائل والسبل لحمايتها من كل مشكلة
يمكن أن تحدث مما يكون له أثر في تأخير إنتاجها .
فلو وقعت مثل تلك
المشكلة فقد حلها الإسلام عن طريق القاعدة العامة : ( تحريم بيع الثمرة قبل بدو
صلاحها).
** يقول البهوتي من الحنابلة :
( ولا يصح بيع
ثمرة قبل بدو صلاحها ، لأنه –صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمار حتى يبدو
صلاحها ، نهى البائع والمبتاع ) ([45]) .
والنهي يقتضي
الفساد ، وقد قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث . وكذلك
لا يصح بيع زرع قبل اشتداد حبه ، لحديثا رواة ابن عمر أن الرسول –صلى الله عليه
وسلم- : ( نهى عن بيع النخل حتى تزهو ، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة ، نهى البائع والمشتري ) ([46]) ، (**) .
وحتى لا يقف الشرع
حائلاً أمام سرعة المعاملات بين الناس اعتبر صلاح بعث الثمرة صلاحاً لها كلها .
يقول البهوتي : (
وصلاح بعض ثمرة شجرة صلاح لجميع نوعها الذي بالبستان ) . وذلك لأن اعتبار الصلاح
في الجميع يشق ولأن صلاحه يتتابع غالباً لحكمة يريدها الله وهي التفكه أكول مدة ([47])
** يقول الشافعي :
أخبرنا مالك أن
رسول الله –صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمار حتى تزهي ، قيل وما تزهي ؟ قال
: حتى تحمر . ثم يقول الشافعي وبهذا نأخذ ([48]) .
** الثاني : تحريم إنتاج ما هو محرم شرعاً :
منع الفلاح من إنتاج ما هو محرم في الشرع أو لا
يفيد المستهلكين .
1-
وذلك
مثل تربية الخنازير في الحظائر ونحوها .
2-
أو
الاشتغال بمهنة زراعة الحشيش أو الأفيون أو زراعة الدخان ونحوه مما يضر عامة الناس
، كالقات والشمة ونحو ذلك ([49]) .
** رأيي في حكمة زراعة ما هو مضر :
أن كل نبات حرم
الإسلام تناوله أو لا يعرف له استعمال إلا في الضرر فزراعته حرام ، كالحشيش ونحوه
. ومثله التبغ (الدخان) ، لأنه مضر سواء قيل بحرمته أو بكراهته . وعلة ذلك : ( أن
الله قد حرمها في كتابه أو على لسان رسوله –صلى الله عليه وسلم- أو حصل الإجماع على
تحريمها ، أو اقتضاه القياس ونحو ذلك ) .
ولأن الانصراف إلى
إنتاج مثل هذه المحرمات والاعتناء بها سيكون حتماً فيه تشجيع لإنتاج هذه المضرات
وترويجها في المجتمع ، ولا ينكر ضرر ذلك على الأخلاق والدين .
وستكون العناية
بهذه المحاصيل المحرمة على حساب إنتاج ما هو مفيد ونافع للمجتمع وسيضر بالإنتاج
الزراعي المفيد على المدى البعيد ومن هنا ندرك حكمة الشارع في حماية الإنتاج
الزراعي .
المطلب الرابع :
صور أباحها الإسلام لحماية القطاع الزراعي :
** أولاً : إباحة اقتناء الكلب للحرث :
عن أبي هريرة –رضي
الله عنه- قال : قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : " من أمسك كلباً ينقص
كل يوم من عمله قيراط ، إلا كلب حرث أو صيد " ([50]) .
أراد البخاري من
إيراد هذا الحديث أن يستدل على إباحة الحرث والحث عليه فإذا كان الكلب المحرم أو
اقتناؤه قد أبيح للحرث فلا شك في إباحة الحرث .
** يقول ابن عبد البر : ( في الحديث إباحة اتخاذ الكلاب للصيد
والماشية وكذلك الزرع ) ([51]) .
فلما كانت المزارع
مترامية الأطراف عادة ، ويصعب على الفرد حراستها من اللصوص والهائم السائبة ، جاءت
الحكمة في إباحة الكلب كي يقوم بحراسة هذا الزرع كي يكتمل نموه ويثمر الثمرة
المرجوة .
ومما لا شك أن
الإسلام عندما أباح اقتناء الكلب للزرع إنما قصد حماية المزارع والبساتين لكي
يتضاعف إنتاجها ويزيد نماؤها لصالح الفرد والجماعة .
** يقول ابن حزم في المحلى :
( ولا يحل اتخاذ
كلب أصلاً إلا لماشية أو لصيد أو لزرع أو لحائط واسم الحائط يقع في البستان وجدار
الدار فقط ) ([52]) .
** ثانياً : من تشجيع الإسلام للزراعة أن الإسلام أباح
بيع السرجين ([53]) النجس . لأن أهل
الأمصار يتبايعونه لزرعهم من غير نكير فكان إجماعاً ([54]) . مع أنه مجمع على
نجاسته .
المطلب الخامس :
** حماية الزرع من اعتداء الحيوان وفض المنازعات في ذلك :
ضمان ما أتلفت
البهيمة من الزرع والشجر ليلاً ، ولا يضمن ما أفسدت نهاراً ، يقول في الشرح الكبير
: هذا إذا لم تكن بيد أحد عليها . وهو قول مالك والشافعي وأكثر فقهاء الحجاز .
ودليل ذلك ، ما
روي أن ناقة البراء دخلت حائط قوم فأفسدت فقضى صلى الله عليه وسلم " على أهل
الأموال حفظها بالنهار ، وما أفسدت بالليل فهو مضمون عليهم " ([55]) ، والحديث وإن كان
مرسلاً إلا أن ابن عبد البر يقول : أنه حديث مشهور حدث به الأئمة الثقات وتلقاه
فقهاء الحجاز بالقبول ([56]) .
** ويقول محمد بن عبد البر : ( ما أفسدت المواشي بالليل من
الزرع فضمان ذلك كله إذا أفسدته ليلاً ، كان على أربابها ، وما أفسدت نهاراً فلا
ضمان عليهم فيه ) ([57]) .
** وجاء في نيل الأوطار للشوكاني :
قال النبي –صلى
الله عليه وسلم- : " العجماء جرحها جبار " ([58]) .
وعم حرام بن محيصة
: أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطاً فأفسدت فيه فقضى نبي الله –صلى الله عليه
وسلم- أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وإن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على
أهلها " ([59])
.
كذلك يرى مالك
والشافعي أنه لا يضمن مالك البهيمة ما جنته بالنهار ، ويضمن ما جنته بالليل.
وأما قوله صلى
الله عليه وسلم : جرحها جبار ، فهو مخصوص بحديث حرام بن محيصة ([60]) .
** يقول الشافعي :
في حديث حرام بن
محيصة دليل على أنه إذا كان على أهل العجماء حفظها ضمنوا ما أصابت ، فإذا لم يكن
عليهم حفظها لم يضمنوا شيئاً مما أصابت ، فيضمن أهل الماشية أو السائبة بالليل ما
أصابت من زرع ولا يضمنونه بالنهار .
ويضمن القائد
والراكب والسائق لأن عليهم حفظها في تلك الحالة ([61]) .
** ومن صور المنازعات بين المزارعين :
يقول ابن حزم في
المحلى : ( إن من غرس أشجاراً فله ما أظلت أغصانها عند تمامها ، فإن انتشرت على
أرض غيره أخذ يقطع ما انتشر منها على أرض غيره .
** دليل ذلك :
ما روى عن أبي
سعيد الخدري –رضي الله عنه- قال : اختصم إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- رجلان
في حريم نخلة ، فأمر صلى الله عليه وسلم بجريدة من جريدها فذرعت فقضى بذلك يعني
بمبلغها ([62])
.
([4])
أبو داود ، جـ1 ،ص178 . وفي الخراج ، ليحيى بن آدم ، ص90 ، صححه المناوي ، في فيض
القدير ، جـ6 ، ص39 .
([49])
وذلك أن الله حرمها في القرآن في قوله تعالى : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب
والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) ، المائدة ، آية (90) .
وفي قوله تعالى : " حرمت عليكم الميتة
والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به " ، المائدة ، آية (5) ، وفي قوله
صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار " .
إرسال تعليق