أبعاد ظاهرة الهجرة السرية

لقد أصبحت ظاهرة الهجرة السرية وما يترتب عنها من اتجار في البشر تطغى على اهتمام مختلف الدول المعنية بها، سواء المصدرة لها أو تلك المستقبلة لها، ولذلك فقد أفرزت حشدا للهمم من كل حدب وصوب لمواجهتها، وسنت قوانين لتنظيمها وحددت مقتضيات لزجر المعنيين بها.

والحديث عن الهجرة الغير المشروعة يحملنا إلى استحضار بعض المراحل التاريخية للهجرة ولو بعجالة.

لقد كانت الهجرة عبر أقطار العالم في ما مضى وحتى أواسط القرن الماضي شيئا مرغوبا فيه، وظاهرة صحية تتبادل بموجبها المصالح والخبرات، وأيضا بناء الاقتصاد من خلال تشغيل اليد العاملة، ولم تكن موضوع اعتراض أو مراقبة من لدن العديد من الدول حتى تلك التي كانت لديها مقتضيات قانونية تنظم اليد العاملة.

وانطلاقا من النصف الثاني من القرن الماضي وعلى خلفية الحرب العالمية الثانية عملت أغلب دول أوربا الغربية لا سيما المطلة منها على حوض البحر الأبيض المتوسط على استقطاب العديد من اليد العاملة، وذلك لما كانت تعانيه في هذا المجال جراء نتائج الحرب، وأمام هذا الوضع فقد تدفق الجيل الأول من المهاجرين من مختلف الدول الإفريقية لا سيما من دول المغرب العربي نحو العديد من الدول الأوربية، ومع تعرض الدول الصناعية الغربية بأوربا للأزمة الناجمة عن الطاقة (البترول) في أواسط السبعينات طرأت معطيات جديدة تجلت في الاستغناء عن العديد من اليد العاملة، مما تكاثر معه طلب العمل من لدن مواطني تلك الدول، وهو ما دفع بالدول الغربية إلى مواجهة تدفق المهاجرين بإغلاق حدودها واستيطان اليد العاملة الإفريقية بصفة نهائية مع ما سوف يترتب عن ذلك من آثار مستقبلية.

وبعد أن أخذ هذا الوضع منحى جديدا أثيرت أزمة داخل الدول، حيث لجأت إلى فرض تأشيرة الدخول إلى أراضيها (تشينكن)، وبذلك أدارت ظهرها لشغيلة الأمس لتفتحه انطلاقا من نهاية الثمانينات وبداية التسعينات في وجه السوق الداخلية الأوروبية لا سيما للشغيلة القادمة من أوروبا الشرقية، وأمام هذا الوضع الجديد بدأت إشكالية الهجرة السرية تطرح نفسها بحدة على كل من الدول المصدرة للهجرة والمستقبلة لها على حد سواء، فتم طرح جملة مقترحات لمعالجة الموضوع تنبني على منظور تنمية الدول الإفريقية المعنية ومساعدة الدول القريبة لها في ذلك معتمدة كآلية في هذا الاتجاه على مساعدة هذه الدول على الانفتاح على اقتصاديات دولية أخرى بما في ذلك الأوربية وتشجيعها على الاستثمار.

وأمام فشل هذه المعالجة طرحت بدائل أخرى أهمها التعاون في إطار الشراكة الاقتصادية بين الدول الأوربية والدول الإفريقية المعنية، غير أنها بدورها لم تكن لتجد حلا للإشكالية، فالتباين الصارخ بين نسبة الولادات ومستوى النمو الديموغرافي من جهة وبين نسبة النمو الاقتصادي في الدول الإفريقية لم يمكن من إنجاح أي من المقترحات الأوربية.

وأمام هذا الوضع وتشبث الدول الأوربية بإغلاق حدودها، وما عرفته العديد من دول إفريقيا من سنوات الجفاف وما لذلك من تأثير على الميدان الفلاحي، وفي غياب سياسة تنموية في هذه الدول المصدرة للهجرة تنبني على أسس جديدة من الاستثمار وتدبير الشأن العام بغية خلق فرص للشغل، فقد أضحت وضعية اليد العاملة بها في تراجع وتدهور مستمرين فضلا عن تدني أجور العاملين منهم وارتفاع مستوى العيش وتكاليف الحياة بصفة عامة، مما أدى إلى انسداد الأفق أمامها والتفكير في شد الرحال إلى دول الغرب حيث يحلمون بالخلاص.

ونتيجة لهذا الوضع، فقد أضحت أفواج من المهاجرين تبحث عن مختلف الوسائل والسبل للالتحاق سرا بالضفة الأخرى، مما جعل الدول الغربية تنظر إلى هذه الظاهرة بمثابة تهديد لأمنها وإخلالا باقتصادها الوطني نظرا لكون المهاجر السري يعمل في السوق السوداء، وهو ما يمس بقواعد المنافسة الشريفة، فضلا عن المس باستراتيجيتها التي تتجه إلى تشغيل اليد العاملة القادمة من دول أوربا الشرقية التي تندرج ضمن الاتحاد الأوربي.

وموازاة مع الجانب الاقتصادي، فإن الهجرة أصبحت بمثابة هاجس بالنسبة للدول الأوربية، ترى فيها مصدرا للتخوف من مظاهر التطرف وسببا في انتشار أنماط الجريمة.

وهكذا وفي ظل هذا الوضع المأساوي نشأت بوادر الهجرة الغير المشروعة وبدأ البحث عن أساليب احتيالية للهجرة ظهر في إطارها في البداية جماعة من المهربين ليتحولوا فيما بعد إلى عصابات لتهجير البشر والاتجار فيهم، حيث أضحت عندهم بمثابة تجارة مربحة تذر أموالا طائلة تصل حسب بعض الإحصائيات إلى 10 مليارات دولار سنويا.

وقد نتج عن هذه الظاهرة ظهور عدة مآسي تتمثل في ما يتعرض له هؤلاء المهاجرون من نصب واعتداءات جسدية وسرقات واغتصاب ومختلف أشكال العنف بل إلى الموت أحيانا لا سيما إثر تعريضهم للسرقة، ناهيكم عما تخلفه عمليات نقلهم عبر البحر بواسطة ما أصبح يعرف بقوارب الموت من مئات الضحايا سنويا.

وتعتبر هذه الظاهرة من أبشع صور انتهاك حقوق الإنسان وامتهان لكرامته، وإيمانا منه بفداحة نتائج هذه الظاهرة فقد أصدر المنتظم الدولي عدة مواثيق دولية منها :

·   النظام الأساسي لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين اعتمدته الأمم المتحدة بموجب قرارها عدد 428 بتاريخ 14/12/1950،
·        الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين التي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة للمفوضين بشأن اللاجئين وعديمي النية الحسنة بتاريخ 28/07/1951،
·        الإعلان المتعلق بحقوق الإنسان للأفراد الذين ليسوا من مواطني البلد الذي يعيشون فيه،
·   قرار الجمعية العامة عدد 52/132 بتاريخ 12/12/1997 الذي نبه إلى الهجرات الجماعية للسكان سيما نتيجة عوامل متعددة،
·   قرار الجمعية العامة عدد 52/97 بتاريخ 12/12/1997 خصص جزء منه لأوضاع النساء في البلدان النامية اللواتي يهجرن لكسب العيش نتيجة الفقر والبطالة،
·   الاتفاقية المتعلقة بحماية المهاجرين والاتجار بالأشخاص المؤرخة سنة 1990 والبروتوكول المتعلق بها سنة 2000،
·    الاتفاقية الدولية بشأن مكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية المتحدث عنها، حيث خصصت جزءا مهما للهجرة السرية،
·        بروتوكول مكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البر والبحر والجو المكمل للاتفاقية المذكورة،
·        البروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل بشأن بيع الأطفال واستغلالهم في البغاء وفي المواد الإباحية،
·        مبدأ حقوق الإنسان للمهاجرين القرار 48/2000 الصادر عن لجنة حقوق الإنسان،
·        الاتفاقية الدولية حول حماية حقوق كافة العمال المهاجرين وأفراد عائلاتهم المؤرخة في يوليوز 2003 (تغير اتفاقية العمال المهاجرين لسنة 1949)، واتفاقية العمال المهاجرين لسنة 1975.

واعتبارا إلى موقع المغرب الجغرافي وقربه من أوربا على ضفتي البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي مما جعل منه منطقة عبور يحج إليه أغلب المهاجرين سرا إلى أوربا والقادمين من دول جنوب الصحراء.

وأمام تزايد الأعداد الهائلة من المهاجرين السريين فقد تم دق ناقوس الخطر للمطالبة بتظافر الجهود للتصدي له وفق ما تفرضه الأوفاق الدولية من حفظ كرامة المهاجر كإنسان وضمان حقوقه، كما يتطلب الأمر أيضا التصدي لمختلف العصابات والأفراد النشيطين في المساعدة على الهجرة السرية وتنظيمها.

ومن مميزات هذه الظاهرة بالمغرب أنها لا تقتصر فقط على المواطنين المغاربة، ولكنها تشمل أعداد هائلة من المواطنين الأفارقة القادمين على الخصوص من جنوب الصحراء والذين تعج بهم المناطق الشمالية، حيث لم يعد المغرب مجرد منطقة عبور وإنما أصبح مركز استقبال للمواطنين الأفارقة القادمين على وجه الخصوص من دول جنوب الصحراء.

ولقد خلفت هذه الوضعية إشكالية ذات بعدين، الأول إنساني والثاني قانوني، فالإنساني يتمثل في الظروف التي يتواجدون فيها وكيفية مواجهة أوضاعهم إنسانيا وأخلاقيا، أما البعد القانوني فيتمثل في معاناة مصالح الأمن من عمليات إبعادهم، وأمام رفض بلدانهم التكفل بعلاجهم وإعالتهم وما يصاحب ذلك من ظروف ضبطهم من طرف مصالح الشرطة القضائية وإخفائهم لهوياتهم وجنسياتهم لكونهم لا يتوفرون على أية وثيقة لإثبات هوياتهم، وقد شملت هذه الظاهرة أيضا استغلال النساء والأطفال، حيث أصبحت الشبكات المختصة في هذا المجال تتاجر في أعراضهم لا سيما الفتيات الصغيرات منهم، مما يطرح إشكالية كبيرة خاصة منهم الأطفال غير المرافقين، حيث تفرز هذه الوضعية حساسية كبيرة سواء لدى الدول المستقبلة أو بلادنا. وفي هذا السياق فقد عمد المشرع المغربي إلى سن القانون رقم 02.03 المتعلق بضبط وتنظيم الهجرة غير المشروعة.

وكان من أهم نتائج اتساع مجالات انفتاح الدول على بعضها وتصاعد وثيرة تنقل مواطنيها خارج الحدود أن تم سن قانون يهدف إلى حماية حقوق المهاجرين بمختلف فئاتهم في انسجام مع الاتفاقيات الدولية وتجسيد ذلك في مجال التعاون الدولي.

ولقد تناول هذا القانون كيفية مراقبة عمليات الهجرة من وإلى المغرب، كما ضاعف من العقوبة المطبقة على المهاجرين السريين الذين يدخلون أو يخرجون من المغرب بصفة غير شرعية باستعمال وثائق مزورة أو وسائل تدليسية، حيث حدد عقوبة ذلك في الحبس من شهر إلى 06 أشهر وغرامة من 3.000 درهم إلى 10.000 درهم (المادة 50)، كما أفرد عقابا لكل موظف عمومي قدم مساعدة للمهاجرين سرا تتراوح بين سنتين إلى 05 سنوات وغرامة بين 50.000 درهم إلى 500.000 درهم (المادة 51)، كما نص على تجريم الشبكات الإجرامية المنظمة للهجرة السرية.

Post a Comment

أحدث أقدم