مستويات العرض والرواية عن نافع
ومن دلالة هذا الخبر وما تقدمه من صنيع نافع، وما ذكره مكي آنفا في توجيه الخلاف عنه بين ورش وقالون وغيره من أصحابه يمكننا أن نميز بالنسبة للعارضين على المشايخ بين مستويين اثنين لم أر من نبه عليهما:
1- مستوى الاختيار:، وهو ما وافق فيه الراوي الوجه المختار الذي يقرأ به شيخه، بدلالة اتفاق الرواة عن الشيخ في القراءة به، وذلك إنما يتحقق كثيرا في "فرش الحروف المفردة" التي لا يختلف الرواة فيها عن الشيخ إلا قليلا.

2-  مستوى الإقرار، وهو ما لا يوافق الوجه المختار عند الشيخ في قراءته، ولكنه مما أذن فيه لصحته وثبوته، وعرض القارئ به فأقره عليه وأجازه به ولم يرده أو ينكره عليه.

والذي يبدو أن هذا المستوى الثاني ـ وإن كان صحيحا ثابتا ـ فإنه ليس كالأول في قوة الانتساب إلى صاحب القراءة ـ كنافع أو غيره من الأئمة ـ، وإنما نسبته إلى الرواة أقوى وأوكد، والأمر فيه شبيه بالسنن الإقرارية التي ربما تكون في كثير من الأحيان من باب التيسير والرخصة، لا من باب الرغائب والعزائم المطلوبة.
وإنما أعني بانتسابها إلى الرواة أنها إما أن تكون اختيارات لهم أحرزت على تزكية الشيوخ لها بالعرض عليهم، وإما اختيارات عامة استجمعوها بالرواية وقرأوا بها وعرضوها على مشايخهم فأقروها كما سوف نرى ذلك عند أبي سعيد ورش في طريقة عرضه على نافع بعون الله.
هذا مع التنبيه على أمر مهم آخر ينبغي أن لا يفوتنا هنا، هو ما أشار إليه الإمام بدر الدين الزركشي نقلا عن بعض المتأخرين، وهو ما ذكره من أن "كل واحد من هؤلاء السبعة روي عنه اختياران وأكثر، وكل صحيح"[1].
ويشهد لصحة هذا بالنسبة لنافع ملاحظة الفروق الواضحة بين مشاهير الرواة عنه من أهل المدينة، كإسحاق المسيبي وإسماعيل بن جعفر الأنصاري وعيسى بن مينا قالون، وكلهم لزمه المدة المديدة، وسمع منه قراءته وعرضها عليه، إلا أن كل واحد منهم أخذ عنه على وفق اختيار معين فارق في كثير من جزئياته باقي أصحابه، ولعل جانبا من هذا التباين بين تلك الاختيارات يرجع إلى أخذ نافع  بأكثر من اختيار مع الزمن، إلا أن كل واحد من العارضين عليه أخذ بما حضره أثناء القراءة عليه وهذا لا يعني انفصام كل العرى بين تلك الاختيارات والروايات المعزوة إليه، وإنما هو نوع من التنوع المميز لقراءته كما قدمنا، مما جعل بعض الأئمة يسمي قراءته "بز القراءات" لما فيها من التنوع.
وسواء نظر الناظر في القراءة المعزوة إليه على مستوى الاختيار، أو المعزوة إليه على سبيل القبول والإقرار، فإنه لا يخطئه أن يتبين المعالم الواضحة والسمات الجامعة بينها، تلك التي يشترك الجميع في الأخذ بها رواية عن الشيخ، مما يشكل النسيج المحكم المميز لقراءته، ويبرز ملامح شخصيته ويبلور مظاهر استقلاله فيها عن نظرائه من أئمة الأمصار الكبرى، ولاسيما فيما تفرد به عن عامة السبعة غيره، أو خالف فيه بعض رجال مشيخته المشهورين، مما رأينا منه نماذج وأمثلة وافية.
على أن طائفة من الحروف التي قرأ بها بعض الرواة عنه مما انتقده بعض أهل العربية يمكن عزوه إلى الراوي الذي قرأ به على سبيل الاختيار، فأقره على القراءة به على سبيل المسامحة والتيسير، فيكون من المستوى الثاني الذي سميناه "مستوى الإقرار" ، ومن ثم فلا يكون نافع مسؤولا عن القراءة به، فضلا عن أن يتخذ ذريعة إلى النيل من مستواه في المعرفة بعلوم اللغة والنحو، ومن هنا يكون كثير مما انتقده عليه بعض أهل العربية غير وارد أصلا، وإنما الانتقاد فيه إذا توجه، كان متوجها إلى الرواة مما قرأوا به بمحضره، فأقرهم، لكنه يختار غيره فيما صح عنه من رواية أصحابه المختصين بالعرض والسماع وطول الصحبة له، ومن هنا فيمكن أن ترد طائفة كبيرة من الحروف التي تنسب إليه في كتب الشواذ عند أبي قرة وغيره إلى هذا القسم فيبطل بذلك مستند الذين توجهوا بالنقد إليه، واعتمدوا على ما نسب إليه من تلك الحروف في الطعن عليه وتظل تلك القراءات في تلك الأحرف متينة الصلة بأصحابها من الرواة عنه، وأما نسبتها إليه فإنما هي من حيث النظر إلى منهجه في قبول جميع ما صح في الرواية بقطع النظر عن كونه الوجه المختار أو غيره.
ومن هنا يمكن تفنيد طائفة من الاتهامات التي توجه بها بعض أهل العربية إلى نافع بالقصور في هذا العلم من مثل ما نقله القلقشندي عن ضياء الدين ابن الأثير عند ذكر "المعرفة بالتصريف" فقال:
"ومن العجب أن يقال إنه لا يحتاج إلى معرفة التصريف، وهذا نافع بن أبي نعيم وهو من أكبر القراء السبعة قدرا وأفخمهم شأنا، قد قال في "معايش" معائش بالهمز..... ثم ذكر وجه الخطأ في ذلك وقال: ومن جملة من عابه أبو عثمان المازني فقال في كتابه في التصريف: "إن نافعا لم يدر ما العربية"[2].
واستكمالا منا للصورة عن شخصية هذا الإمام، ولمزيد من التعريف بمنزلته ومكانته في القراءة وعلومها وما كان له من الريادة والسبق في كثير من مباحثها، نعقد الفصل الآتي بعون الله، ليقف القارئ معنا على صور أخرى من مجالي نبوغ نافع واجتهاده وارتفاعه في التعامل مع العلوم القرآنية من مستوى الرواية المجردة والنقل الأمين، إلى آفاق الدراية والبحث والتوجيه والتحرير.



[1] - البرهان في علوم القرآن 1/227.
[2]-  صبح الأعشى للقلقشندي 1/216-217. وقراءة "معائش" بالهمز رواية خارجة عن نافع كما في السبعة 278.

Post a Comment

Previous Post Next Post