فقه التفضيل بين
العبادات
إذا كانت العبادة
في الإسلام بهذه المكانة وهذه المزايا التي ذكرنا لمحة عنها وإذا كانت العبادة في الإسلام
بهذا الشمول والذي يغطي حياة الإنسان وجميع أعماله الظاهرة والباطنة، فأي الأعمال أعظم
منزلة عند الله تعالى يلزمها العبد ويتزود بها حتى تقربه من الله تعالى؟
لا شك أن الإجابة
عن هذا السؤال نجده في الحديث القدسي الذي قال فيه ^ فيما ينقله عن ربه: «وما تقرب
إلى عبدي بأحب ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه»([256])
الحديث.
فمن الفقه في الدين
أن لا نحرص على السنن والنوافل ونفرط في الفرائض، فأفضل العبادات، وأعظم ما يتقرب به
العبد إلى الله هو ما افترضه الله عليه وأوجبه ثم تأتي بعد ذلك النوافل كما أخبرنا
النبي ^.
وقد أورد ابن القيم
رحمه الله أقوال العلماء ومذاهب الناس في التفضيل بين العبادات ومما ذكر مختصراً:
أن من الناس من زعم
بأن أفضل الأعمال إلى الله أشقها على النفس.
ومنهم من زعم أن
أفضل الأعمال التجرد والزهد في الدنيا، ولا شك أن هذين الصنفين قد جانبوا الصواب.
ومن الناس من رأوا
أن أنفع العبادات وأفضلها ما كان فيها نفع متعدٍ ومن ذلك: الاشتغال بمصالح الناس، وتعليمهم،
والدعوة إلى الله، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، واستشهدوا لذلك بالأحاديث الصحيحة
التي تُبين فضل الدعوة إلى الله، وتعليم الناس وهدايتهم، ثم يختم بذكر القول الرابع
والذي يرجحه على ما سبق من أقوال بأن لكل وقت عبادته الأفضل، وذلك بالعمل على مرضاة
الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد
وإن آل إلى ترك الأوارد، من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض
كما في حالة الأمن.
والأفضل في وقت حضور
الضيف مثلاً: القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب. وكذلك في أداء حق الزوجة
والأهل.
والأفضل في وقت السحر:
الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء والذكر والاستغفار.
والأفضل في وقت استرشاد
الطالب وتعليم الجاهل: الإقبال على تعلميه والاشتغال به.
والأفضل في أوقات
الأذان: الاشتغال بإجابة المؤذن.
والأفضل في أوقات
الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت،
والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل.
والأفضل في أوقات
ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال: الاشتغال بمساعدة وإغاثة لهفته،
وإيثار ذلك على الأوراد والخلوة.
والأفضل في وقت قراءة
القرآن: جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه حتى كأن الله يخاطبك به فتجمع قلبك على
فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره.
والأفضل في وقت الوقوف
بعرفة: الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك.
والأفضل في أيام
عشر ذي الحجة، الإكثار من التعبد، ولاسيما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من
الجهاد غير المتعين.
والأفضل في العشر
الأخير من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخاطبة الناس والاشتغال
بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء.
والأفضل في وقت مرض
أخيك المسلم أو موته: عيادته، وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك.
والأفضل في وقت نزول
النوازل وأذاة الناس لك، أداء واجب الصبر في مخالطتك بهم دون الهرب منه، فإن المؤمن
الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه.
فالأفضل في كل وقت
وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.
وهذا المتعبد على
هذه الحال غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت، فمدار تعبده عليها، فهو لا يزال متنقلاً
في منازل العبودية كلما رفعت إليه منزلة عمل على سيره إليها. واشتغل بها حتى تلوح له
منزلة أخرى. فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره. فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن
رأيت العبّاد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته
معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم([257]).
وقد ضرب الصديق أبو
بكر أروع الأمثلة في الجمع بين أبواب الخير جميعها فذات يوم قال رسول الله ^: «من أصبح
منكم اليوم صائما؟» قال أبو بكر رضي الله عنه أنا، قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة؟»
قال أبو بكر رضي الله عنه أنا، قال: «فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟» قال أبو بكر رضي
الله عنه أنا، قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضا؟» قال أبو بكر رضي الله عنه أنا، فقال
رسول الله ^: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة»([258]).
إرسال تعليق