اسباب عوامل تطور الدراسات العقابية  عبر التاريخ
     لا شك أنه في الوقت الذي كانت تسود فيه فكرة العقوبات البدنية أبان العصور الوسطى مثل الإعدام وبتر الأعضاء والجلد لم تكن الدراسات العقابية لتشغل بال أحد ، إذ لا يثير تنفيذ هذه العقوبات مشاكل تستوجب الدراسة ، كما أن تنفيذها لم يكن يستغرق وقتاً طويلاً. ولم يكن السجن في تلك الفترة الزمنية مكاناً لقضاء العقوبة ، بل هو مجرد مأوى للفقراء والمشردين أو مكاناً للتحفظ على الأشخاص تمهيداً لمحاكمتهم أومن أجل تنفيذ العقوبات البدنية عليهم[1].  

لذا فإن بداية ظهور الدراسات العقابية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بظهور العقوبات السالبة للحرية أواخر القرن الثامن عشر ، حيث اعتبر السجن أداة رئيسية للعقاب. ويرجع ذلك إلى أن بقاء المحكوم عليه داخل السجن فترة من الزمن بهدف إيلامه والانتقام منه قد يفتح باب المشكلات العقابية ، كالتي تتعلق بأساليب المعاملة العقابية وكيفية تنظيم العلاقة بين الإدارة العقابية والمحكوم عليهم[2].

على أنه ممالا شك فيه أيضاً أن تلك الدراسات كانت من الضعف الشديد بحيث كانت أثارها محدودة ، وما هذا إلا للنظرة التي كانت سائدة تجاه المجرم على اعتبار أنه شخص شرير ومنبوذ من المجتمع يجب التنكيل به واحتقاره وإذلاله ، والنظرة للعقوبة على أنها مجرد انتقام من الجاني. ولتحقيق هذا الهدف كان التنفيذ العقابي يعتمد على مجموعة من العقوبات القاسية ولم تعتني الدولة بتقديم أية وسائل مساعدة للمحكوم عليهم.

ثم كانت نقطة الانطلاق عندما بدأت رياح التغيير تهب على فلسفة العقاب ، فبدأت تأخذ فكرة الإصلاح والتهذيب مكانها في الفكر العقابي وتصبح هي الهدف الأساسي للعقوبة ، وبدأ ينظر إلى المجرم على أنه شخص عادي دفعته بعض الظروف الاجتماعية والنفسية للانحراف والسير في دروب الجريمة. ومن هنا بدأت الدراسات العقابية يصيبها الثراء والخصوبة بهدف ضمان علاج وإصلاح المحكوم عليهم وتأهيلهم حتى يكونوا في المستقبل أعضاء نافعين في المجتمع.

وقد دفعت إلى هذا التطور عدة عوامل نوجزها في الآتي :

1-                  أ : العامل الديني :
     كان لظهور المسيحية وتطور علوم اللاهوت أثره الفعال في تحول النظرة إلى المجرم من شخص منبوذ سيطرت عليه الأرواح الشريرة ولا سبيل لعلاجه إلى شخص مخطئ يمكن عن طريق الجرعات الدينية التي يقوم رجال الكنيسة ببثها في نفسه من إعادته إلى طريق الرشاد والتوبة. وفي ظل هذه التعاليم – القائمة على الرحمة والتسامح – لقول السيد المسيح " من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر" - تم اللجوء إلى فكرة العزل في زنازين تعمل على تذكير المخطئ بجريمته وتدفعه إلى التأمل فيما اقترفت يداه من ذنب إلى التوبة والندم. وكان هذا هو مهد ميلاد فكرة السجون الانفرادية[3].

ويرجع الفضل في إظهار هذه الفكرة إلى القديس جان مابيون Jean Mabillon في مؤلفة "تأملات حول السجون الدينية" والذي رجح فيه فكرة السجون الانفرادية لما لها من دور في إصلاح وتقويم المحكوم عليه ، مع مراعاة إصلاح أحوالها من حيث الاشتراطات الصحية. كما نادى بوجوب إعمال مبدأ تفريد العقوبة عند تنفيذها بطريقة تراعي التمايز في القوى العقلية والنفسية للمحكوم عليهم.

2-                  ب : العامل السياسي :
     لقد شهدت أوروبا أواخر القرن الثامن عشر تطوراً في العديد من الأفكار السياسية على أثر انتشار المبادئ الديمقراطية التي نادى بها كبار الفلاسفة والمفكرين خاصة ما يتعلق منها بمفاهيم الحرية والإخاء والمساواة بين الأفراد على يد روسو وفولتير ومونتيسكيو. وكان لزاماً في ظل هذه الأفكار أن تتطور دراسات علم العقاب وأن تتبدل النظرة إلى المجرم ، فلم يعد من يسلك سبيل الجريمة مواطناً من الدرجة الثانية ، إنما هو مواطن يقف على قدم المساواة مع أقرانه من بقية أفراد المجتمع ، وله ما لهم من حقوق إنسانية. لذا كان من المؤكد الاعتراف للمحكوم عليه بكافة الحقوق الإنسانية في المجتمع ، كالحق في التعليم والحق في الرعاية الصحية ، والحق في العمل. كل هذا ألقى على عاتق الدولة واجب القيام بمساعدة المحكوم عليهم ، بحسبان أن ذلك التزام يفرضه عبء مكافحة الجريمة وليس بحسبان ذلك تبرعاً أو إحساناً.

3-                  ج : عامل تطور العلوم الإنسانية :
     لقد أسهم التطور الذي شهدته العلوم الإنسانية بدوره في تطور الدراسات العقابية والمفاهيم التي تحكم تنفيذ الجزاء الجنائي.

وكان علم الإجرام من بين أهم العلوم التي ساهم تطورها في ازدهار الدراسات والبحوث العقابية. فهذا العلم الذي يبحث في أسباب الظاهرة الإجرامية باعتبارها ظاهرة في حياة الفرد وحياة المجتمع ، سواء أكانت أسباب شخصية تتصل بالفرد ذاته أو أسباب اجتماعية ، قد ساعد على توجيهه المعاملة العقابية نحو استئصال أسباب الجريمة حسب حالة كل مجرم على حدة. لذا فقد ظهر في علم العقاب ما يسمى بنظام "تصنيف المحكوم عليهم" تبعاً لنوع العوامل الإجرامية التي دفعتهم إلى انتهاج طريق الجريمة وبما يتفق وشخصية وظروف كل مجرم.

وما كان للدراسات في مجال التنفيذ العقابي أن تتطور إلا تبعاً لتطور عدد أخر من العلوم الإنسانية ، منها علم النفس ، الذي مكن الباحثين من التعرف على الخصائص النفسية للمحكوم عليهم حسب كل جريمة ، وعلم الاجتماع ، الذي ساعد الباحثين في مجال الدراسات العقابية على تحديد العوامل المؤثرة في علاقة الإنسان بالبيئة الاجتماعية المحيطة ، والتي يمكن أن تجعل من هذا الإنسان فرد سوي في علاقته الاجتماعية أو بالعكس تجعل منه فرد يهدد الكيان الاجتماعي المحيط به.

كل هذه العوامل قد تناولها العديد من الباحثين في مجال الدراسات العقابية بالاهتمام محاولين الاستفادة من نتائجها بما يمكن دراسات علم العقاب من النمو والتطور. ومن بين هؤلاء الباحثين يمكن أن نذكر العالم الإنجليزي جون هوارد John Howard الذي أجرى دراسة انتقادية للسجون الإنجليزية في ضوء المقارنة بينها وبين السجون في عدد من البلدان الأجنبية ، وانتهى إلى ضرورة التخفيف من قسوة نظام السجون الانفرادية ، والتأكيد على ضرورة الاهتمام بعمل المسجونين وتجميعهم نهاراً والفصل بينهم ليلاً ، لما للعمل من أثر في تهذيب وتأهيل المحكوم عليهم ، أو كما قال هذا العالم (دع المحكوم عليهم يعملون وسوف يصبحون رجالاً شرفاء)[4].

وقد توالت الدراسات على يد العديد من تلامذة هوارد ومنهم جيرمي بتنام Bentham الفيلسوف الإنجليزي[5] ، وميرابو Mirabeau الباحث الفرنسي. وببزوغ السنوات الأولى من القرن التاسع عشر كان لشارل لوكا Charles Lucas دوره الهام في تطوير دراسات علم العقاب. فله الفضل في إضفاء الطابع العلمي والمنهجي على دراساته من خلال أفكاره عن نظام عزل المحكوم عليهم بعقوبات قصيرة المدة ، والأخذ بالنظام المختلط داخل السجون ، القائم على الجمع بين المحكوم عليهم نهاراً والعزل بينهم ليلاً ، والاهتمام بالعمل والرعاية الدينية والاجتماعية للسجناء. تلك الأفكار التي قام بنشرها في مؤلفين ، أحدهما بعنوان "النظام العقابي في أوروبا والولايات المتحدة Le système pénitentiaire en Europe et aux Etats-Unis   في عام 1828 ، والأخر بعنوان "نظرية السجون" La théorie de l’emprisonnement في عام 1837. كما ساهم هذا العالم في تأسيس الجمعية العامة للسجون في عام 1877[6].


[1] S. Plawski, Droit pénitentiaire, Publications de l’Université de Lille III, non daté, p. 48.
[2] د. محمود نجيب حسني ، دروس في علم الإجرام والعقاب ، دار النهضة العربية ، 1982، ص218.
M. Foucault, Surveiller et punir : naissance de la prison, éd. Gallimard, 1975, p. 8 ; P. Deyon, Le temps de prison, Paris 1975, p. 125 et s.
[3] G. Levasseur, G. Stéfani et R. Jambu-Merlin, op. cit., p. 265 et s.
[4] د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص320.
[5] وقد وضع بنتام مشروعاً لسجن مثالي من الناحية الهندسية يجب أن يراعي في بنائه وتنظيمه أن يتشكل من زنزانات انفرادية وأن يتكون السجن من مبنيين الأول دائري ويتضمن الزنزانات والثاني فيجلس فيه حرس السجن. ويقع المبنى الثاني في وسط المبني الأول الدائري بحيث يرى الحارس كل مسجون في زنزانته. ويقع بين كل زنزانة ومبنى المراقب ممر ضيق يسمح بهذه المراقبة. راجع د. غنام محمد غنام ، المرجع السابق ، ص5-6.
P. Deyon, Le temps de prison, op. cit., p. 126 et s.
[6] G. Levasseur, G. Stéfani et R. Jambu-Merlin, op. cit., p. 277 et s.
د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص321 ، د. محمد عيد الغريب ، المرجع السابق ، ص19 ، د. غنام محمد غنام ، المرجع السابق ، ص6.

Post a Comment

Previous Post Next Post