حصاد التنمية



1/من النمو الاقتصادي إلى التنمية الاقتصادية.
ميز الاقتصاديون بين النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية على أساس أن المفهوم الأول يعني زيادة كمية في مستوى الدخل بدون أن يصاحبها تغير في هيكل الإنتاج والاقتصاد القومي،أما التنمية الاقتصادية فتعني إلى جانب نمو الدخل حدوث تحولات أخرى،مثل التغير في هيكل الاقتصاد بحيث يتقلص النصيب النسبي للزراعة في الناتج المحلي لصالح إسهام قطاع الصناعة فيه،وتزيد نسبة السكان في الحضر بمعدل اكبر من نظيرها في الريف،وتدخل أساليب حديثة في مجال الإنتاج ويزيد الاعتماد على النقود كوسيط للتبادل بدلا من المقايضة،وتزداد نسبة الإنتاج المسوق بدلا من الإنتاج المعيشي وهكذا،إلا أن المفهوم الأساسي للتنمية ارتبط برفع متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي،وقد ارتفعت أصوات عديدة تعبر عن عدم الرضا من المقاربة التي تقوم على تعريف التنمية الاقتصادية على أساس مستوى الدخل،وتمت مع الوقت صياغة مفاهيم أخرى متطورة من التنمية الاقتصادية.وقد سبق لنا التوسع عن ذلك في محاضرات ماضية.

2/التنمية البشرية.
في ضوء عدم الرضا عن متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي كمؤشر للتنمية،والتأكيد المتزايد على أهمية العناية بالعنصر البشري بصفته المحدد الرئيسي لكفاءة أداء الاقتصاد الوطني،تم وضع مؤشر مركب أطلق عليه مؤشر التنمية البشرية،وهو يحتوي على متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي،ومستوى الخدمة التعليمية التي يحصل عليها الأفراد في المجتمع،وتقاس بمتوسط عدد السنوات الدراسية التي يحصل عليها الفرد،ومستوى الرعاية الصحية،سواء من حيث عدد الأطباء أو عدد الأسرة المتاحة لكل ألف من السكان،ونصيب الفرد من الإنفاق على الخدمات الصحية،ومتوسط العمر المتوقع للحياة عند الولادة.
ولا يتساوى ترتيب الدول بناء على مؤشر التنمية الاقتصادية بالضرورة مع ترتيبها على أساس متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.
وقد سبق أن تطرقنا بإسهاب لأبعاد التنمية البشرية في المحاضرات الماضية.

3/التنمية المستدامة.
يستخدم هذا المصطلح في التنمية كترجمة للمصطلح الانجليزي sustainableويقصد به الاهتمام باحتياجات الأجيال القادمة عند إحداث التنمية،وليس مجرد سد حاجات الجيل الحاضر،كما أنها تشتمل على ضرورة المحافظة على البيئة،وعدم تلويثها حيث أن هذا يؤثر سلبا على التنمية ذاتها في المستقبل.
ومثال ذلك في الزراعة،حيث يمكن زراعة الأرض زراعة كثيفة جدا ونحصل منها حاليا على محصول وفير دون أن يعوض ذلك بالتسميد أو  غيره ويترتب على ذلك أن إنتاجية الأرض سوف تنخفض في المستقبل،إما لتآكل التربة أو لانخفاض منسوب المياه الجوفية أو غيرها من الأسباب،ومثل هذا الإجراء يتعارض مع استدامة التنمية و اطرادها.
ومن الأمثلة أيضا ما حدث لمنطقة حلوان،فقد كانت منطقة حلوان في مصر شهيرة بحماماتها التي كان يؤمها كثير من المصريين والسياح الأجانب لأغراض الاستشفاء،نظرا لتوافر عيون مياه كبريتية فيها،غير أن إقامة صناعات الحديد والصلب والاسمنت منذ أواخر خمسينات القرن الماضي في هذه المنطقة ،أدت إلى تلوث الجو والبيئة،وقضي على الحمامات المذكورة.
إن التنمية المستدامة تقتضي إذا لزم إقامة هذه الصناعات في هذه المنطقة بالذات،يتوجب الابتعاد عن هذه الحمامات بمسافة كافية للحفاظ عليها.
وربما أدى ذلك إلى زيادة التكاليف المالية المباشرة لإقامة هذه المصانع،إلا أن التوفير المتحصل من الحؤول دون تدمير البيئة والقضاء على الحمامات ودون تدهور صحة سكان المنطقة نتيجة التلوث،يعوض هذه الزيادة بأضعاف مضاعفة.
إن التنمية المستدامة لا تعارض إقامة مثل هذه المشروعات،إنما تدعو إلى جانب إقامة هذه المصانع والمشروعات ،إلى الحفاظ على البيئة والموارد كلما أمكن ذلك،وان على الدولة أن تبذل مجهودا صريحا وحقيقيا من اجل ذلك.
إن اخذ التنمية المستدامة بعين الاعتبار يستوجب مراعاة الترابط بين البيئة والتنمية،ويظهر ذلك في أربعة مجالات رئيسية:
1-إدماج البيئة والتنمية على مستويات السياسة والتخطيط والإدارة.
2-تحقيق الاستخدام الكفء للأدوات الاقتصادية وآليات السوق.
3-إنشاء نظم المحاسبة البيئية والاقتصادية المتكاملة.
4-وضع إطار قانوني وتنظيمي فعال للحفاظ على البيئة مع عدم إهمال التنمية.
وعلى ذلك يمكن تعريف التنمية المستدامة على أنها تلك التي تأخذ في الاعتبار احتياجات الأجيال القادمة عند تلبية حاجات الجيل الحاضر،ويتطلب ذلك الحفاظ على البيئة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية،وبعدم تدمير الموارد وحسن إدارتها أثناء عملية التنمية،وتعزيز موضع ومشاركة مختلف فئات المجتمع في الجهود الإنمائية.

4/التنمية الشاملة.
التنمية الشاملة تعني أنها يجب آن تكون اقتصادية واجتماعية في الوقت عينه،وأنها يجب آن تتناول الزراعة والصناعة معا،وتحقق التوازن في التنمية المكانية،وان يفرد اهتمام خاص لقضايا توزيع الدخل والقضاء على الفقر.
المعروف آن الدول النامية يغلب عليها الطابع الزراعي،في حين تتميز الدول المتقدمة بغلبة النشاط الصناعي فيها،ولذلك عرف البعض التنمية على أنها التنمية الصناعية،مما دفع الكثير من الدول النامية إلى صياغة برامجها الإنمائية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي على التصنيع مع إهمال قطاع الزراعة،لكن هذه التنمية الجزئية لم تحقق ما كانت تصبو إليه هذه الدول من آمال،وتبين لها آن التصنيع الكفء يتطلب عدم إهمال قطاع الزراعة بل ضرورة إعطائه الاهتمام الكافي.
كذلك ركزت بعض الدول النامية عل تنمية أقاليمها الجغرافية التي تتوافر فيها البنية الأساسية،وأهملت أقاليمها الأكثر فقرا،وأدى هذا التوجه إلى زيادة عدم العدالة الإقليمية داخل الدولة الواحدة،كما أدى إلى معاناة الدولة من مشاكل عدة وصلت إلى درجة الحرب الأهلية بين الأقاليم المرفهة والمحرومة والى انفصالها عن بعضها البعض.
إذ يعتقد آن هذا ما حدث بين باكستان الشرقية وباكستان الغربية عندما كانتا تحت لواء دولة واحدة ،فقد تركزت الاستثمارات في باكستان الغربية وأهمل الإقليم الشرقي،ثم اندلعت الحرب الأهلية واستقل الإقليمان عن بعضهما البعض،فأصبحتا باكستان الحالية وبنغلادش.
كما آن بعض الدول لا توفر عناية كافية للجوانب الاجتماعية للتنمية(مثل درجة الفقر المنتشرة فيها أو إهمال الاهتمام بالصحة والتعليم أو العلاقات السائدة بين فئات المجتمع وغيرها)أثناء حصولها،فينعكس ذلك سلبا على التنمية الاقتصادية بعد وقت غير طويل.

5/تسميات أخرى للتنمية.
اعتمدت مسميات أخرى للتنمية يمكن ذكر بعضها أيضا،منها التنمية المستقلة،وهي التي تقوم على الأخذ بالاعتبار إمكانات الدولة المعنية وتراعي السمات الخاصة بها،كما آن هنالك تنمية تؤكد مبدأ الاعتماد على الذات عند إحداث التنمية،وهي تنمية تعطي أفضلية للإنتاج الذي يشبع الحاجات الضرورية لأفراد المجتمع،وتركز على تحقيق الاكتفاء الذاتي واستخدام الأساليب التكنولوجية ذات الكثافة اليدوية.
ونظرا لأن معظم الدول النامية صغيرة الحجم،وليس بها تنوع كبير(ربما باستثناء الصين والهند)نفقد نادى البعض بالاعتماد الذاتي الجماعي،أي آن تتم تنمية موارد الدول النامية بالتعاون قي ما بينها.

ر،أن الهدف من التنمية الارتقاء بحياة الإنسان،غير أن كل هذه العناوين والأبحاث لاحظت بعدا واحدا في تكوين شخصية الإنسان الفرد والمجتمع وهو البعد المادي الذي يتطلب ارتقاء في الحياة المادية،ولم تعطي اهتماما جديرا بالملاحظة لبعده الروحي،الذي يتمثل في علاقة هذا المخلوق بخالقه،وهو البعد الذي تكفلت به الرسالات السماوية للأنبياء على طول تاريخ البشرية،بل إن مصطلحات التنمية على اختلافها لم تستفد من الثروة الدينية للدفع باتجاه تحقيق أهدافها.
من هنا لزمت الحاجة إلى وجود تنمية يمكن أن نطلق عليها بالتنمية الدينية،كما يمكن آن نستفيد من الثروة الدينية التي تتمثل في نصوص وتواريخ وسير وتعليمات الأديان،وسيما المشتركات منها بين كافة الأديان،في الدفع باتجاه تحقيق الأهداف التنموية لكافة البشرية.

Post a Comment

Previous Post Next Post