عناصر
البناء اللفظي:
معروف أن النص الشعري يتكون من مجموعة من
العناصر اللغوية التي يختارها الشاعر وتدخل في إيصال تجربته الشعرية إلى عقل
المتلقي ومشاعره، وهذه العناصر لا يمكن تبريرها إلا من خلال تصورنا لواقع تلك
المكونات مع إيقاع عواطفه، كما أن تلك المكونات للنصوص الشعرية التي تحتوي على جرس
الألفاظ وبنيتها أو ما نسميه عادة بشكل القصيدة، مفرقين بينه وبين محتواها، وهما
اللذان يبدوان في التأثير. ولعل عملية التأثير هذه هي التي تعمل بدورها -بطريق غير
مباشر- في المعاني التي تفهم من الألفاظ التي اختارها الشاعر في قصيدته، بل إن
المدلول الذي تحمله الألفاظ الشعرية يكون غالباً مفعماً بالإحساس، ويستطيع القارئ
من خلالها أن يفهم مدلولات متعددة تشتمل على المدلول الذي اختاره المتلقي وتأثر به
واستدعاه شكل الشعر وولّده فيه([i]).
إن
الأثر الذي يحدثه الإيقاع الشعري عند المتلقي يرجع إلى تلك الصلات التي تبدو واضحة
–وإن اختفت أحياناً أمام النظر العاجل- بين الألفاظ ومعانيها.
وأما
الوزن فهو عنصر أساسي من عناصر المكونات الشعرية، إضافة إلى المكونات الأخرى التي
تشكل إيقاعه، يقول ابن طباطبا العلوي: "واجب على صانع الشعر أن يصنعه صنعةً
متقنة لطيفة مقبولة حسنة مجتلبة لمحبة السامع له والناظر بعقله إليه، مستدعية لعشق
المتأمل في محاسنه، والمتفرس في بدائعه، فيحسه جسماً ويحققه روحاً، أي يتقنه لفظاً
ويبدعه معنى، ويحتسب إخراجه على ضد هذه الصفة فيكسره قبحاً يبرزه مسخاً، بل يسوي
أعضاءه وزنا ويعدل أجزاءه تأليفاً ويحسن صورته إصابة، ويكثر رونقه اختصاراً ويكرم
عنصره صدقاً، ويعلم أنه ثمرة لبّه وصورة علمه والحاكم عليه أو له([ii]).
فالإيقاع
عنصر أساسي من العناصر المكونة للتجربة الشعرية التي أراد الشاعر إيصالها إلى
المتلقي، كما لا يمكن فصله مطلقاً عن العناصر الأخرى، بل هو متعاون في مكونات
البيت الشعري جميعا، حيث يوجد في الحركات والصوامت والمقاطع والأوزان والقوافي
وحروف الروي وفي أجزاء الوزن الشعري كلها.
كما يمكن أن يتشكل في النبر سواء الذي وقع على التفعيلة وهو ما يعرف بالنبر
الشعري، أو ما كمن في الوحدة اللغوية وهو ما يعرف بالنبر اللغوي الذي تحدد مواضعه
في مقاطع معينة من الصيغة الصرفية.
والحقيقة
إن الدراسات اللغوية الحديثة التي تُعنى بتحليل العمل الأدبي والنص الشعري تركز
على عناصر البناء الشكلي وتحاول بيان علاقتها بالدلالة. ولعل هذا النوع من الدراسة، وهو البحث عن
العلاقة بين الأحرف والصيغ من ناحية والقيمة البيانية لها من ناحية أخرى، والتي
نادى بها اللغويون المحدثون –قد أقرها العرب القدماء من علماء فقه اللغة والبلاغة،
فهناك كلمات تختلف في اللفظ وتشترك في المعنى، وهناك كلمات أخرى تشترك في اللفظ
ولكنها تختلف في المعنى.
والناظر في كتب العربية
يرى أنهم قد شغلوا أنفسهم بهذا الموضوع واهتموا به اهتماماً بالغاً، ويكاد
اللغويون العرب يجمعون على القول بهذه العلاقة ([iii])
فقد ذكر ابن فارس أن: "القلم لا يكون قلماً إلا وقد بري وأصلح وإلا فهو
أنبوبة، وسمعت أبي يقول: هو عود قلم من جانبه كتقليم الأظفور فسمي قلماً([iv]).
وكذلك ابن جني الذي بسط
القول في هذا الموضوع وتوسع فيه، إذ كان يؤمن بوجود صلة قوية بين اللفظ ومدلوله
وقد خصص في كتابه "الخصائص" أربعة فصول لهذا الموضوع هي: باب في تصاقب الألفاظ لتصاقب المعنى([v]).
وباب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني([vi]).
وكذلك باب تلاقي المعاني على اختلاف الأصول والمباني باب الاشتقاق الأكبر. وقد ساق
ابن جني أمثلة عديدة على القيمة التعبيرية للحرف الواحد وهو صوت بسيط يقع في أول
الكلمة تارة، وفي وسطها تارة أخرى، وفي آخرها أحياناً، فما جاؤوا بشواهدهم تلك سدى
ولا ألقوا بها جزافاً، بل اعتقدوا أن في تقديم ما قدم منها، وتأخير ما أخر،
وترتبها على نحو معين، أسراراً مدهشة، فابن جنى يؤكد أن في تقديم ما يضاهي أول
الحدث وتأخير ما يضاهي آخره، وتوسط ما يضاهى أوسطه، سوقاً للحرف على سمت المعنى
المقصود والغرض المطلوب([vii]).
ويمثل لذلك بالمواد
(بحث) و (صد) و (جر) فالباء في بحث تشبه بصوتها خفة الكف على الأرض، والحاء فيها
تشبه مخالب الأسد وبراثن الذئب ونحوهما إذا غارت في الأرض، والثاء للنفث، والنبش
للتراب، وهذا أمر تراه محصلاً. فهذا التحليل والتأويل مستمد من أثر ذوقي للحروف
والمقاطع والكلمات يستند إلى مؤثرات بيئية قد اعتادها ابن جني كانطباعه عن أصوات
حيوانات بعينها كانت تعيش في بيئة وتصدر أصواتاً لها صدى في نفسه قد يكون محبباً
وقد يكون كريهاً إلى نفسه.
إلاّ أن عباد بن سليمان
الصيمري المعتزلي قد غالى وأبعد كثيراً عندما قال:
"إن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية موجبة
حاملة للواضع على أن يضع"([viii])،
وقد كان للأصوليين رأي في هذا الموضوع وكان اللفظ في تصورهم دليل الفكر وهو خاضع
للتطور والتغير ولذا فقد نال أمر اللفظ ومدلوله من الأصوليين عناية فائقة محاولين
في ذلك تحديد دلالته، يقول الغزالي في العلاقة بينهما: "فاعلم أن كل من طلب
المعاني من الألفاظ ضاع وهلك ومن قرر المعاني أولاً في عقله ثم اتبع المعاني
الألفاظ فقد اهتدى"([ix]).
فالمعاني عنده توجد في
الفكر أولاً ثم تقوم بالتعبير عنها وهذا الاتجاه نجده عند أحد علماء الغرب وهو
العالم الإنجليزي ستيفن أولمان الذي أرجع الفضل في ذلك إلى عالمين غربيين من علماء
اللغة هما "أوجدن، وريتشاردز" إذ يقول: "فالدورة (وهي عملية
التعبير عن المعنى) يجب أن تبدأ عن طريق الفكرة، أي عن طريق المحتوى العقلي الذي تستدعيه
الكلمة والذي يرتبط بالشيء، وسوف نعرف اللفظ حينئذٍ بأنه الصيغة الخارجية للكلمة،
وأما المدلول فهو الفكرة التي يستدعيها اللفظ([x]).
وهو يوضح لنا أن
العلاقة بين اللفظ ومدلوله علاقة متبادلة، فليس اللفظ وحده هو الذي يستدعي المدلول،
بل إن المدلول أيضاً يمكنه أن يستدعي اللفظ، وهذه العلاقة بينهما هي ما يمكن أن
يطلق عليها بمصطلح (المعنى)، فيعرف المعنى: بأنه العلاقة المتبادلة بين اللفظ
والمدلول، علاقة تمكن كل واحد منهما من استدعاء الآخر.
ثم يمثل لذلك بعدة
كلمات تتحقق فيها هذه العلاقة، فكلمة (قهقه) عنده معبرة ووصفية إلى حد ما للصيغة
نفسها والأصوات فيها دليل على دلائل المعنى وفي استطاعة الأجنبي الذي لا يعرف
مدلول هذه الكلمة أن يخمن هذا المعنى تخميناً دقيقاً - إلى حد ما - على حين أنه لا
يمكن البتة أن يخمن معنى كلمة منضدة مثلاً من الصوت نفسه، وكذلك يرى كلمة تمايل أنها
ترجمت فيها الحركة ترجمة بيانية دقيقة بوسائل صوتية([xi]).
وقد قال سيبويه في
المصادر التي جاءت على الفَعَلان: إنها تأتي
للاضطراب والحركة، نحو النَّقَزان، والغَلَيان، والغثَيَان، فقابلوا بتوالي
حركات المثال، توالي حركات الأفعال([xii]).
وقال ابن جني:
"ووجدت أنا من هذا الحديث أشياء كثيرة على سمت ما حداه، ومنهاج ما مثلاه،
وذلك أنك تجد المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير، نحو الزعزعة، والقلقلة،
والصلصلة، والقعقعة، والصعصعة، والجرجرة، والقزقزة، ووجدت أيضاً
"الفَعَلى" في المصادر والصفات إنما تأتي للسرعة، نحو البشكى، الجمزى،
والولقى"، "فلما كانت الأفعال دليلة المعاني كرروا أقواها، وجعلوه
دليلاً على قوة المعنى المحدّث به، وهو تكرير الفعل، كما جعلوا تقطيعه في نحو صرصر
وحقحق دليلاً على تقطيعه"([xiii]).
ويذكر الدكتور إبراهيم
أنيس أن الدارسين في الجامعات الأوروبية كانوا حتى منتصف القرن التاسع عشر ينتصرون
لفكرة الصلة بين اللفظ ومدلوله ولكن عندما نشطت الدراسة اللغوية في أواخر القرن
العشرين ظهر الرأي المعارض لهذه الفكرة واحتج أصحابه بوجود المشترك اللفظي
والترادف وتطور الأصوات والمعاني، ثم وقف الدكتور أنيس من الرأيين موقفاً وسطاً
فقال: "ونحن حين نتخذ طريقاً معتدلاً بين هؤلاء ندرك كل الإدراك أن في اللغة
معاني تتطلب أصواتاً خاصة وأن هناك من المدلولات ما تسارع اللغة للتعبير عنه
بألفاظ معينة"([xiv]).
ثم قال: "ولا يسع الباحث المنصف بعد كل هذا إلا أن يعد أولئك، الذين انتصروا
للربط بين الأصوات والمدلولات، قوماً من الأدباء يستشفون من الكلمات أموراً سحرية
ويتخيلون في منطوقها رموزاً وعلامات لا يراها اللغوى العملي"([xv]).
والحقيقة
أن فكرة القيمة البيانية للأحرف، وتعزيز المعاني بالأحرف والصيغ، والإيمان بوجود
معان تمثيلية للأحرف والألفاظ التي ورثناها عن سيبويه وابن جني ومن جاؤوا بعدهما،
لم تقتصر على الأصوات والألفاظ فقط، بل انتقلت إلى البحور والأوزان العروضية على
أساس أن الأوزان هي الأخرى مبانٍ ورموز قد تكون لها بعض الدلالات.
وهذا
النوع من الدراسة التي تعتمد على الخصائص المعنوية للأوزان العربية نلحظه عند حازم
القرطاجني في "منهاج البلغاء" حيث يحدد هذه الفكرة بقوله: "ولما
كانت أغراض الشعر شتى، وكان منها ما يقصد به الجد والرصافة ومنها ما يقصد به الهزل
والرشاقة ومنها ما يقصد به البهاء، والتفخيم وما يقصد به الصغار والتحقير، وجب أن
تحاكى تلك المقاصد بما يناسبها من الأوزان ويحليها للنفوس، فإذا قصد الشاعر الفخر
حاكى غرضه بالأوزان الفخمة الباهية الرصينة، وإذا قصد في موضع قصداً هزلياً أو
استخفافياً وقصد تحقير شيء أو العبث به حاكى ذلك بما يناسبه من الأوزان الطائشة
القليلة إليها. وكذلك في كل مقصد. وكانت شعراء اليونانيين تلتزم لكل غرض وزناً
يليق به ولا تتعداه إلى غيره"([xvi]).
ولعل
ما أشار إليه القرطاجني من تقسيم للأغراض الشعرية يتحقق في القصائد العادية في مختلف عصور
الأدب العربي، ثم يذهب القرطاجني لإعطاء الأوزان العربية خصائص معنوية مرتبطة بها وفق المنهج الذي سار عليه، فيقول: "ومن تتبع
كلام الشعراء في جميع الأعاريض وجد الكلام الواقع فيها تختلف أنماطه بحسب
اختلاف مجاريها من الأوزان.
ووجد
الافتنان في بعضها أعم من بعض، فأعلاها درجة في ذلك الطويل والبسيط ويتلوها الوافر
والكامل، ومجال الشاعر في الكامل أفسح منه في غيره. ويتلو الوافر والكامل عند بعض
الناس الخفيف. فأما المديد والرمل ففيهما لين وضعف وقلما وقع كلام فيهما قوي إلا للعرب، وكلامهم مع ذلك في غيرهما أقوى. وقد نبه
على هذا في المديد أبو الفضل بن العميد، فأما المنسرح ففي اطّراد الكلام عليه بعض
اضطراب وتقلقل وإن كان الكلام فيه جزلاً. فأما السريع والرجز ففيهما كزازة، فأما
المتقارب فالكلام فيه حسن الاطراد إلا أنه من الأعاريض الساذجة المتكررة الأجزاء.
وإنما تستحلى الأعاريض الساذجة المتكررة الأجزاء. وإنما تستحلى الأعاريض
بوقوع التركيب المتلائم فيها، فأما الهزج ففيه مع سذاجته حدة زائدة فأما المجتث
والمقتضب فالحلاوة فيهما قليلة على طيش فيهما. فأما المضارع ففيه كل قبيحة. ولا
ينبغي أن يعد من أوزان العرب. وإنما وضع قياساً وهو قياس فاسد لأنه من الوضع
المتنافر على ما تقدم([xvii]).
وقد
يعتقد البعض أن القرطاجني قد استند في رأيه إلى انطباعه في رأيه الشخصي، والحق أنه
كان يستند في رأيه إلى نوع من الإحصاء، وخصوصاً ما قاله في بحور الطويل والبسيط
والكامل ثم الخفيف، فأغلب الدواوين العربية تتسم بهذه النسبة من الورود، ويضاف إلى
ذلك ما قاله في بحر المنسرح الذي يتسم بالاضطراب من الناحية الموسيقية خصوصاً في
التفعيلة الوسطى التي كثيراً ما تتراوح بين "فاعلاتٌ" و
"مفعولاتٌ"، هذا فضلاً عن الكثرة في استخدام الزحافات في تفعيلات هذا
البحر بصورة غير منتظمة مما يعدُ سبباً في هذا الخلل الموسيقي الذي سجله
القرطاجني، ونحن نؤيده في ذلك كما نؤيده في تلك الجزالة التي حكم بها على تراكيب
هذا البحر، ويقصد بها الصحة النحوية وتماسك التركيب([xviii]).
وهذا ناشئ بطبيعة الحالة عن التزام الشعراء
بالتركيب العربي السليم لأن هذا البحر بخاصة لا ينظم عليه إلا شاعر متمكن في كل من
العربية والعروض معاً، ولذا فهو قليل الشيوع خصوصاً في العصور المتأخرة حيث بدأ
المولّدون ينظمون أشعاراً يقلدون بها الأشعار العربية الأصيلة لأغراض بعضها فني
وبعضها اجتماعي، وأورد القرطاجني: "العروض الطويل تجد فيه أبداً بهاءً وقوة،
وتجد فيه للبسيط سباطة وطلاوة، وتجد للكامل جزالة وحسن أطراد، وللخفيف
جزالة ورشاقة وللمتقارب سباطة وسهولة، وللمديد رقة وليناً، وللرمل ليناً وسهولة،
ولما في المديد والرمل من اللين كانا أليق
بالرثاء وما جرى مجراه منهما بغير ذلك من أغراض الشعر([xix]).
Post a Comment