تغير المناخ العالمي وتأثيره على الطاقة:

يتبين لنا مما تقدم أن لتغير المناخ تأثيراً كبيراً على خيارات الطاقة في المستقبل. ولهذا السبب إضافة إلى أسباب اقتصادية وبيئية أخرى، هناك تحول من استخدام الوقود الأحفوري إلى أنواع أخرى من الطاقة. ومن الفحم الحجري والنفط إلى الغاز الطبيعي. لكن ارتفاع سعر الغاز الطبيعي ونقص إمداداته، تجعل من خيار التوسع في استخدام الطاقة النووية لتوليد الكهرباء ممكناً لبعض الدول المتقدمة أو الدول النامية الكبيرة، خاصة في حال توفر التقانة ورأس المال. غير أن استخدام هذه الطاقة تعترضه مشاكل سياسية واقتصادية وبيئية. فبالنسبة للدول النامية هناك مشكلة توفر رأس المال والتقانة وضمان عدم انتشار الأسلحة النووية. وبالنسبة للدول المتقدمة هناك المعارضة البيئية القوية. وهناك دول مثل الصين والهند والبرازيل لا توجد فيها هذه العقبات، إضافة إلى استيرادها لكميات متزايدة من النفط مما يجعل من الطاقة النووية بالنسبة لها خياراً قوياً. أما الخيار الآخر فهو اعتماد الطاقات المتجددة. ومن ضمن هذه الطاقات وأرخصها الطاقة المائية التي استخدمت على نطاق واسع في توليد الكهرباء ولذا  لا يوجد مجال كبير للتوسع فيها مستقبلاً. ويبين الجدول (6) أسعار توليد الكهرباء من الطاقات المختلفة. ومنه نتبين أن الطاقة الكهرومائية هي الأرخص حالياً حيث تبلغ الكلفة بمعدل 2-5 سنت/ كيلو وات ساعي. وتأتي بعدها الطاقة النووية ثم الطاقة الأحفورية، على الرغم من أن هذه الأرقام وضعت قبل الزيادة الكبيرة التي طرأت على أسعار النفط في الآونة الأخيرة. أما سعر الطاقة من الرياح فهي الأخفض من أسعار الطاقة المتجددة وهي قريبة جداً من أسعار الطاقة الأحفورية. وهذا يفسر سبب الاهتمام الكبير في استغلال ما يمكن استغلاله منها في الوقت الحاضر وفي العقود القليلة القادمة، حيث يتوقع أن تساهم هذه الطاقة في توليد 20% من الكهرباء في بعض الدول المتقدمة. أما سعر الطاقة من الطاقات المتجددة الأخرى فهي أعلى من الطاقة الأحفورية، ولكن ليس بفارق كبير. وإذا أخذنا زيادة سعر برميل النفط الأخيرة، والمبالغ الطائلة التي تصرف على البحث والتطوير، والقلق الكبير الناجم عن تغير المناخ، فلنا أن نأمل بأن هذه الطاقات  وعلى الأخص خلايا الوقود والطاقة الشمسية النظيفتين ستتوفران بأسعار منافسة خلال العقدين القادمين.

2- تغير المناخ العالمي وتأثيره على الطاقة في الدول المتقدمة:

من المعروف أن الدول المتقدمة تستهلك من الطاقة مقداراً أكبر بكثير  بالنسبة للفرد من الدول النامية كما يظهر من الشكل (24)(47). وبالتالي فهذه الدول هي المصدر الرئيس لغازات الدفيئة، والمسبب الأكبر لظاهرة الاحتباس الحراري وتغير المناخ. ولذا فهي تتحمل المسؤولية الرئيسة في معالجة هذه الظاهرة ونتائجها، ليس بالنسبة لدولها فقط،  وإنما بالنسبة للعالم ككل. وقد اعترفت هذه الدول بمسؤوليتها عن ذلك، وخاصة عن طريق التعهدات التي قطعتها على نفسها ووافقت عليها في بروتوكول كيوتو باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية. يتضمن هذا البروتوكول تعهداً بخفض الإصدارات من غازات الدفيئة إلى أقل مما كانت عليه عام 1990 وذلك بحدود عام 2015. وعلى الرغم من الجهود التي بذلت في بعض هذه الدول لتخفيف إصداراتها وعلى الأخص في ألمانيا واليابان والدول الاسكندنافية والمملكة المتحدة، إلا أنها لا تزال بعيدة عن الوفاء بتعهداتها التي قطعتها على نفسها في بروتوكول كيوتو. ولهذا السبب عقد مؤتمر بالي عام 2007 لمراجعة ما تم إنجازه في هذا المجال، وللبحث في تفعيل الاتفاقية وأخذ موافقة دول أخرى عليها. وبالفعل فقد اعترفت الولايات المتحدة بموضوع التغير المناخي إلا أنها لم توقع على الاتفاقية، أما استراليا فقد صادقت عليها.
لقد نجحت الدول المتقدمة بصورة عامة في تحسين كفاءة الإنتاج بالنسبة لوحدة من الطاقة. ولهذا مردود إيجابي بالنسبة لتغير المناخ، على الرغم من أن الدافع الأساس لذلك قد يكون اقتصادياً،  ويتمثل في التخفيف من الاعتماد على النفط المستورد. وقد زاد بعض هذه الدول وعلى الأخص المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي من التحويل من الفحم الحجري إلى الغاز الطبيعي الآتي من بحر الشمال أو من خطوط أنابيب الغاز من روسيا أو من استيرادها له من دول مصدرة  كالجزائر وقطر. وقد أدى هذا إلى تحسين البيئة والتخفيف من التلوث بشكل عام. كما كان له تأثير إيجابي على إصدار غازات الدفيئة.
ونتيجة لارتفاع أسعار النفط والطاقة بشكل عام وللضغوط بشأن التغير المناخي، فقد انخرط عدد متزايد من الدول المتقدمة، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا في مراجعة سياساتها السابقة بشأن توليد الكهرباء من الطاقة النووية. وتنوي هذه الدول زيادة اعتمادها على الطاقة النووية في توليد الكهرباء من حصتها الحالية التي هي بحدود 20% إلى أعلى من ذلك، علماً أنها الآن في بعض الدول المتقدمة مثل فرنسا بحدود 80% وفي بلجيكا بحدود 65%. وتقوم هذه الدول بتطوير تقانات جديدة لاستخدام الطاقة النووية، مثل تطوير المفاعلات الولودة السريعة، أو تطويع طاقة الاندماج النووي، التي لا تزال مصدر اهتمام وتطوير من عدد من هذه الدول. لكن يجب عدم الاستخفاف بالمخاطر التي تسببها هذه الطاقة، مثل حوادث المفاعلات أو انتشار الأسلحة النووية، وتأمين طريقة آمنة للتخلص من النفايات المشعة. ولذا فقد لا يكون هذا الخيار متاحاً في بعض الدول المتقدمة، كألمانيا أو الدول الاسكندنافية حيث  توجد معارضة شعبية وسياسية قوية لهذه الطاقة.
لقد بدأ الوقود الحيوي في الآونة الأخيرة يحتل أهمية متزايدة في العديد من الدول المتقدمة والنامية، التي تمتلك إمكانات زراعية كبيرة، كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والبرازيل. وقد تشجعت هذه الدول على استخدام هذه الطاقة ليس من أجل التخفيف من تغير المناخ، وإنما بشكل أساس لارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية، والتي بلغت أحياناً بحدود 120 دولار / البرميل، مما يجعل من الوقود الحيوي منافساً قوياً في أسواق الطاقة، وخاصة لإمكانية استخدامه كبديل أو متمم للغازولين في وسائط النقل. وعلى حين يوفر بعض أنواع الطاقة بدائل للنفط أو الفحم الحجري في توليد الكهرباء، فإن بدائل النفط بالنسبة لوقود السيارات قليلة. وقد استخدم الوقود الحيوي المستخرج من قصب السكر في البرازيل كمتمم للغازولين منذ عقد السبعينات في القرن الماضي. وبسبب انخفاض نسبة الكربون إلى الهيدروجين في الوقود الحيوي فإنه يولد كميات أقل من غازات الدفيئة. لكن عمليات التخمر بحد ذاتها تولد غاز الميثان، الذي يعتبر أحد غازات الدفيئة القوية. ولذا فهناك شك في أن يقوم هذا النوع الجديد من الوقود في التخفيف من غازات الدفيئة بشكل ملموس. وإضافة لذلك فقد تسببت موجات الجفاف، والفيضانات الناجمة عن تغير المناخ، التي ضريت أكثر مناطق العالم في السنوات الأخيرة في ارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل كبير. وقد تسبب هذا في حدوث اضطرابات سياسية واجتماعية في معظم الدول، بما فيها الدول المتقدمة نفسها. وقد أثار هذا قلق المجتمع الدولي من أن إنتاج الوقود الحيوي قد يكون على حساب توفر الغذاء بسعر رخيص،  حيث يقلل من المساحات المزروعة لذلك، كما أنه يزيد من استهلاك المياه النادرة،  ويقلل من الاحتياطي الاستراتيجي من المحاصيل الأساسية. غير أن هناك بحوثاً تجرى لإنتاج الوقود الحيوي من الفضلات، ومن الأخشاب، بدلاً من المحاصيل الزراعية مما لا يتعارض مع زيادة إنتاج المحاصيل الزراعية الأساسية.
وتولي الدول اهتماماً كبيراً للبحوث العلمية لتطوير الطاقات المتجددة. وربما لم يعد هناك مجال لتوليد كمية أكبر من الطاقة الكهرومائية. أما طاقة الرياح فهي تشهد انتعاشاً قوياً مما قد يرفع من حصتها لتوليد الكهرباء في العديد من الدول المتقدمة إلى 20% تقريباً. وتبقى الطاقة الشمسية أهم الطاقات المتجددة التي على الإنسان أن ينجح في تطويعها. وهناك ازدياد كبير في الدول النامية والمتقدمة على السواء في استغلال هذه الطاقة في تسخين المياه، والتي قد تستهلك في بعض الدول 10% من الطاقة الكلية المستهلكة. كما أن هذه الطاقة أصبحت متاحة وخاصة في المناطق البعيدة والمعزولة عن الشبكة الكهربائية  كما في الجزر أو أرياف الدول النامية. وتولي بعض المناطق التي تشدد على تخفيف التلوث مثل ولاية كاليفورنيا اهتماما كبيراً للاستفادة من هذه الطاقة بشقيها الكهروفلطائي والحراري. على أن أكبر مشكلة تواجه هذه الطاقة هي مسألة تخزينها ونقلها. ويمكن عن طريق تحويل هذه الطاقة إلى غاز الهيدروجين حل هذه المشكلة، ولذا فإننا نشهد اهتماماً كبيراً في طاقة الهيدروجين التي دعيت (طاقة المستقبل). لقد أصبحت تقانة خلايا الوقود التي استخدمت في سفن الفضاء في الستينات متاحة واقتصادية في بعض المناطق التي تشدد على تخفيف الإصدارات لاستخدامها في وسائط النقل. ولكن يبقى هناك مجال للبحث والتطوير حتى تأخذ هذه الطاقة القدر المستحق لها في ميزانية الطاقة.

3- تغير المناخ العالمي وتأثيره على الطاقة في الدول النامية:

تضم مجموعة الدول النامية عدداً من الدول التي تتفاوت في حجمها ومستوى المعيشة فيها ونموها الاقتصادي وأنماط استهلاك الطاقة فيها. فبالنسبة لبعض الدول الكبيرة مثل الصين والهند والبرازيل التي تضم حوالي نصف سكان العالم فإنها تنمو بنسبة مرتفعة قد تصل في حالة الصين إلى 10% خلال العقدين الماضيين. تعتمد هذه الدول على الوقود المتوفر لديها وهو بالنسبة للصين والهند الفحم الحجري وبعض النفط في توليد الطاقة. ولذا فإن مستوردات هذه الدول من النفط تزداد بشكل مطرد، وقد تصل في حالة الصين إلى 10 مليون برميل / اليوم لتتجاوز بذلك الولايات المتحدة كأكبر مستورد للنفط. وربما يفسر هذا النمو في الطلب على النفط الارتفاع الكبير في أسعاره في السنوات القليلة الأخيرة. وقد تسبب استخدام الفحم الحجري في توليد الكهرباء إلى استفحال مشاكل التلوث البيئي، إضافة إلى زيادة إصدارات غازات الدفيئة بشكل كبير. ولذا فلدى هذه الدول برامج طموحة خلال العقود القادمة لتأمين حاجتها المتزايدة من الكهرباء من الطاقة النووية. وفي حالة البرازيل فهي تعتمد على الوقود الحيوي بشكل كبير لتعويض ما تحتاجه من وقود لوسائط النقل.
وبالنسبة لمجموعة الدول النامية الأخرى فإنها تعتمد على النفط والفحم الحجري والأخشاب كمصادر للطاقة بشكل كبير. ولا تتوفر لهذه الدول التقانة اللازمة، ورؤوس الأموال الكبيرة التي تمكنها من استغلال الطاقة النووية في توليد الكهرباء. لقد اعتمد عدد منها على توليد الكهرباء من الطاقة المائية، لكن هذه الطاقة لم تعد تلبي الحاجة في المستقبل. ولذا فهناك حاجة لدعم هذه الدول عن طريق تحسين كفاءة الطاقة، وترشيد الاستهلاك، واستخدام التقانات الحديثة في الطاقات المتجددة، وعلى الأخص طاقة الرياح والطاقة الشمسية وطاقة الفضلات والكتلة الحيوية. ولابد من مساعدة الدول المتقدمة في هذا المجال على ذلك، ونقل التقانة اللازمة وبناء القدرات وتوفير رؤوس الأموال.
وتعاني الدول النامية من مشكلة أخرى وهي قطع الغابات للاستفادة من الأخشاب في التدفئة أو الطهي  أو لاستخدام الأراضي في الرعي أو لزراعة المحاصيل. ويؤدي هذا إلى خفض امتصاص غاز ثنائي أكسيد الكربون، وبالتالي زيادة تركيزه في الغلاف الجوي، مما يساهم في زيادة الاحتباس الحراري. ولذا فمن الضروري إيقاف هذه العملية بتأمين البدائل اللازمة من الطاقة، وإعادة زراعة الأراضي بالغابات، وإدارتها بشكل مستدام.

Post a Comment

أحدث أقدم