حكم المباح
      حكم المباح أنه لا ثواب فيه ولا عقاب ، ولكن قد يثاب عليه بالنية والقصد ، كمن يمارس أنواع الرياضة البدنية بنِيّة تقوية جسمه على محاربة الأعداء ، وكمن يتناول الطعام بنية تقوية الجسد على طاعة الله  .
وقد تعرض الإمام الشاطبي في الموافقات للمباح وجعله أنواعاً أربعة [1] :
1 .  مباح بالجزء مطلوب بالكل على جهة الوجوب : مثل : الأكل والشرب ، ومعاشرة الزوجة ، فهذه وأمثالها وإن كانت مباحة بالجزء لكنها واجبة الفعل بالجملة ، إذ امتناع شخص عنها بالكلية وبشكل دائم حرام ، لما في ذلك من إهلاك النفس ، وتفريط بالنفس والنسل .
2 . المباح بالجزء والمطلوب بالكل على جهة الندب :  كالتمتع الزائد على الحاجة في المأكل والمشرب والملبس ، والمعاشرة ، فهذه مباحة بالجزء لكنها مندوبة بالكل ، وقد ورد عن رسول الله r قوله : " إِنَّ اللَّهَ يُحِبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ " [2]  ، وقوله r : " فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي " [3] .
3 . مباح بالجزء منهي عنه بالكل على وجه التحريم : مثل الحاجات التي تقدح المداومة عليها بالمروءة ، والعدالة ، فيخرج صاحبها بالمداومة عليها إلى ما يخالف هيئات أهل العدالة ، ويشبه الفسّاق وإن لم يكن كذلك .
4 .  مباح بالجزء منهي عنه بالكل على وجه الكراهة : ومثّل له بالتنزه في البساتين ، وسماع تغريد الحمام ، والغناء المباح ، وغير ذلك . فإن هذه الأشياء مباحة بالجزء ، فلو فعلها الإنسان مرة فلا حرج عليه بخلاف ما إذا فعلها على الدوام فهي مكروهة  .

هل المباح مأمور به ؟
ذهب جمهور العلماء إلى أن المباح غير مأمور به [4] من حيث هو مباح ، وخالف في ذلك الكعبي [5] ـ أحد رؤوس المعتزلة ـ وقال : كل فعل يوصف بأنه مباح فهو واجب [6] ، ولذا يكون المباح مأموراً به ، لأنه يتحقق به فعل واجب أو ترك حرام ، وترك الحرام واجب ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب [7] .
قال علاء الدين البخاري تعقيباً على ذلك: ( وهو قول شاذ خارج عن الإجماع ) [8] .                               
 وأورد العلماء أدلة تثبت أن الشارع لم يأمرنا بفعل المباح ولم ينهنا عن فعله ، ومن ذلك :
1.               أن المباح عند الشارع هو : ما خُير فيه بين الفعل والترك من غير مدح ولا ذم لا على الفعل ولا على الترك ، وإذا تحقق الاستواء بين الطرفين والتخيير فيهما لم يتصور أن يكون التارك مطيعاً بتركه لعدم تعلق الطلب بالترك ، وكذا لا يكون مطيعاً بفعله لأن الطاعة لا تكون إلا مع الطلب ، وليس ثمة طلب .
2.               إجماع المسلمين على أن من نذر ترك المباح لا يلزمه الوفاء بنذره ، وقد ورد أن رجلاً نذر أن يصوم قائماً ولا يستظل ، فأمره رسول الله r أن يجلس وأن يستظل وأن يتم صومه [9] . فقد أمره r أن يتم ما فيه طاعة لله تعالى وهو الصوم ، وأن يترك ما نذر من ترك المباح ، ولو كان هذا الترك طاعة للزم النذر ، فلما لم يلزم دلّ على أنه غيرُ طاعة .

هل المباح من التكليف ؟
    اتفق جمهور العلماء على أن المباح لا يدخل تحت التكليف ، وخالف في ذلك أبو إسحق الإسفراييني [10] ، وهذا الخلاف لفظي .
فالنافون يقولون : إن التكليف يكون بطلب ما فيه كلفة ومشقة ، ولا طلب في المباح ولا كلفة ، لكونه مخيراً فيه بين الفعل والترك من غير ضرر يلحقه في العاجل والآجل [11] .
وأما المثبت فقد نسبه إلى وجوب اعتقاد كونه مباحاً ، والوجوب من خطاب التكليف ، أي فلمّا وجب اعتقاد كونه مباحاً فقد أصبح مندرجاً تحت التكليف .
وعمدة أبي إسحق أن المرء يفتقر في معرفة المباح والفرق بينه وبين المحظور إلى نظر وتأمل ، وذلك نوع كلفة ومشقة . قال ابن برهان تعليقاً على ذلك[12] : ( وهذه زلة من كبير ) .


[1] ) الشاطبي ، الموافقات 1 / 132 - 133  0
[2] ) رواه أحمد ، المسند ـ مسند أبي هريرة 16 / 300 ، والترمذي ، سنن الترمذي 10 / 21 ، والبيهقي في السنن الكبرى 3 / 271 ، ( صحيح ) ، الألباني ، صحيح الجامع الصغير وزيادته 1 / 260 0
[3] ) متفق عليه ، الإمام البخاري ، الجامع الصحيح ـ باب الترغيب في النكاح  ، والإمام مسلم ، صحيح مسلم ـ كتاب النكاح ـ باب استحباب النكاح لمن تاقت إليه نفسه 2 / 102 رقم 2487 0
[4] ) ابن السبكي ، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب 2 / 6 ، الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام  1 / 171 ، إمام الحرمين ، البرهان  1 / 294 ، الغزالي ، المستصفى  1 / 74 ، آل تيمية ، المسودة  / 36  0
[5] )   البخاري ، كشف الأسرار 1 / 119 ، التفتازاني ، التلويح 1 / 156 ، الغزالي ، المستصفى  1 / 75 ،  آل تيمية ، المسودة  /  6 -7 ، الزركشي ، سلاسل الذهب  / 113 0
[6] ) ابن السبكي ، رفع الحاجب  2 / 7 ، إمام الحرمين ، البرهان  1 / 294 0
[7] ) الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام  1 / 171  0
[8] ) البخاري ، كشف الأسرار  1 / 120   0
[9] ) رُوي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ مَا بَالُ هَذَا ؟ فَقَالُوا نَذَرَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ وَلَا يَسْتَظِلَّ مِنْ الشَّمْسِ وَلَا يَجْلِسَ وَيَصُومَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَجْلِسْ وَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ ، رواه مالك في الموطأ 3 / 395 ، والإمام البخاري في الجامع الصحيح ـ باب النذر في ما لا يملك وفي معصية  رقم 6210 0
[10] ) ابن برهان البغدادي ، الوصول إلى الأصول  1 / 77 0
[11] ) المرجع نفسه  1 / 77 0
[12] ) المرجع نفسه  1 /77 0

Post a Comment

Previous Post Next Post