تعريف الإباحة :
الفرع الأول : الإباحة لغة  :
  هي أصل يدل على سعة الشيء وبروزه وظهوره .
والإباحة : الإظهار والإعلان ، ومنه يقال : باحَ بسره : إذا أظهره [1] .
وقد يرد أيضاً بمعنى الإطلاق والإذن . ومنه يقال: أبحته كذا: أي أطلقته فيه وأذنت له [2].
وقد أخذت الإباحة من السعة والظهور. وإباحة الشيء تعني أنه غير محظور، فأمره واسع غير مضيق .
وإباحة الشيء : إحلاله . وأبحتك الشيء : أحللته لك . والمباح : خلاف المحظور .

الفرع الثاني : الإباحة اصطلاحاً :
يمكن القول بأن الإباحة هي : خطاب الشارع المتعلق بتخيير المكلف بين الفعل والترك من غير مؤاخذة 0
  وعرّف أبو يعلى الفراء المباح بأنه : ( كل فعل مأذون فيه لفاعله ، لا ثواب في فعله ولا عقاب في تركه ) [3]. وقيّد التعريف بالمأذون في فعله احترازاً عن :
1 .  أفعال المجانين والصبيان والبهائم ، لأنه لا يصح إذنهم وإعلامهم به .
2 . أفعال الله تعالى ، لأنه لا يجوز أن يوصف فعل الله بأنه مأذون له في فعله .
3 . ويخرج بهذا القيد الحرام والمكروه ، لأنهما غير مأذون في فعلهما .
4 . وبقيد " لا ثواب في فعله ولا عقاب في تركه " : يخرج الواجب والمندوب ، لأنهما مأذون في فعلهما ، ويثاب فاعلهما ، ويعاقب تارك الواجب دون المندوب .
واختار الآمدي تعريف المباح بأنه : ( ما دلّ الدليل السمعي على خطاب الشارع بالتخيير فيه بين الفعل والترك من غير بدل ) [4].
فخرج بقوله " بالتخيير فيه " : أفعال الله تعالى إذ هو يفعل ما يشاء دون أن يخيّره أحد ، كما إنه لا يترتب على أفعال الله ثواب ولا عقاب ، فهو الذي يثيب ويعاقب إن شاء .
وبقوله " من غير بدل " : يخرج الواجب الموسع في أول الوقت ، والواجب المخير ، فهو إن لم يفعل في أول الوقت ، فهو مخير بتأخيره إلى جزء آخر منه ، أو يفعل هذا أو يفعل خصلة أخرى من الواجب المخير ، أي يوجد بدل من أول الوقت ، كما يوجد بدل من أحد الأفراد التي هو مخير فيها . بينما في المباح فالطرفان مستويان ، ولا يطالب ببدل .
 فالإباحة : خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين على وجه التخيير بين الفعل والترك .                 أو هي : ما خير المرء فيه بين فعله وتركه .
إلا أن هذا التعريف منقوض بخصال الكفارة المخيرة ، فإنه ما من خصلة منها إلا والمُكَفِّرُ مخير فيها بين فعلها وتركها ، وبتقدير فعلها لا تكون مباحة بل واجبة .
وكذلك الصلاة في أول وقتها الموسع : إذ المكلف مخير بين فعلها وتركها مع العزم ، وليست مباحة بل واجبة .
الفرع الثالث : حكم المباح :
فإن المكلف لا يمدح على فعل المباح ، ولا يذم على تركه .
وبذلك فإن المباح ما ورد الإذن من الله تعالى بفعله وتركه غير مقرون بذم فاعله أو مدحه ، ولا بذم تاركه أو مدحه .
ويمكن أن يطلق على المباح : المطلق ، والحلال ، والجائز [5] .
ومن أمثلة المباح : الأكل والشرب ، والاستراحة بعد التعب ، والوقوف في الشمس ، واللهو البريء ، والصيد ، والتمتع بالطيبات من المأكل والملبس والمشرب والمسكن... .

المطلب الثاني : طرق إفادة الإباحة
تعرف الإباحة بأمور منها :
1 .   النص على الحل : فإذا ورد من الشارع نص بحِلِّ شيءٍ فإن ذلك يعني إباحته ، ويمكن أن يمثل لذلك بقوله تعالى : {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ } (  المائدة 5 ) ، وقوله سبحانه وتعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } (  المائدة96 ) ، وقوله r في البحر: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ "[6] .
وقد يُخَيّرُ الشرعُ بين الفعل والترك بقوله " إن شئتم فافعلوا ، وإن شئتم فاتركوا " [7] ، ويمكن أن يُمثل لذلك بقوله r حين سئل عن الوضوء من لحوم الغنم فقال " إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا تتوضأ " [8] ، فقد ساوى بين الوضوء وعدمه ، والأمر هنا يفيد إباحة الصلاة من غير إعادة الوضوء .
2 .   النص من الشارع على نفي الإثم أو الجناح أو الحرج :  فمن الأول : قوله تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (  البقرة 173 .
ومن الثاني قوله تعالى : {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } (  البقرة236 ) ، وقوله جل شأنه : {لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ } (  الأحزاب55 ) .
ومن الثالث: قوله تعالى : {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ }                             (  الفتح17).
3 .   صيغة الأمر المصحوبة بقرينة دالة على الإباحة : مثل قوله تعالى: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ  } (  المائدة 2 ، أي : إذا تحللتم من الإحرام فالصيد مباح لكم . ، وقوله تعالى : {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } (  الجمعة 10) .
 هذا وإن الأمر الوارد بعد الحظر يفيد الإباحة في نظر بعض الأصوليين [9]، ويعتبر المنع السابق للأمر قرينة دالة على إباحة الفعل .
4 .     استصحاب الأصل : إذ الأصل في الأشياء الإباحة [10] ، فإذا لم يوجد في الفعل دليل يدل على حكمه فهو للإباحة ، ويدل على ذلك قوله تعالى :{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ
جَمِيعاً } (  البقرة 29 ) . وقوله تعالى : {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } (  لقمان  20 ) ، فخلق الله تعالى ما في الأرض للانتفاع به ، ولا يصح الانتفاع به إلا إذا كان مباحاً .
فإن لم يتكلم الشرع في المباح البتة ، ولم يتعرض له لا بصريح اللفظ ولا بدليل من أدلة السمع ، فهو هنا يدل على الإباحة [11] .
 وعلى هذا : فالأفعال من عقود وتصرفات ، والأشياء من جماد أو حيوان أو نبات : الأصل فيها الإباحة ، فما لم يرد دليل من الشارع يدل على حكمها صراحة فحكمها الإباحة استصحاباً للإباحة الأصلية .
هذا وقد يطلق على ما لا ضرر فيه اسم مباح مع أنه قد يكون محظوراً في أصله ، كما يقال دم المرتد مباح ، أي : لا ضرر على من أراقه .
وبذلك يلاحظ أنه قد يدخل في المباح ما يكون حراماً في ذاته في الأصل ، ثم يعرض ما يجعله حلالاً كدم المرتد ، إذ كان دمه حراماً ، فلما ارتد زالت حرمة دمه .
كما أن أخذ مال الزوجة يكون حراماً بمقتضى قوله تعالى : {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } (  النساء20 ) ، ولكن باستمرار الشقاق بينهما جاز أن تدفع ما تفتدي به نفسها ، وأن يأخذه ، وكذلك إن قدمته بطيب نفسٍ منها من غير إكراه على ذلك فإنه يحل للزوج أخذ ما تعطيه زوجه بدليل قوله تعالى : {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } (  النساء4 ) .
وقد يكون حكم الفعل الوجوب وليس الإباحة بعد أن كان حراماً ، وذلك كما في السرقة مثلاً : فإنّ قطعَ اليدِ حرامٌ ، ولكن : عند السرقة الموجبة للحد فإن قطعها ليس على الإباحة فحسب ،  بل هو على الوجوب ، ولكن لا إثم على من قطع يده بسبب سرقته . وكذلك بقية الحدود ، أو القصاص إذا لم يعفُ المجني عليه أو وليُه .
ومن الجدير بالعلم أن إباحة الأشياء إنما هو في تخير أنواعها وأوقاتها ، فإباحة الطعام مثلاً : هي في تخيّر أنواعه ، وأوقاته لا في أصل تناول الطعام ، إذ به تحفظ الحياة وتبقى النفس ، وبدونه يكون فقدانها ، ومعلوم أن حفظ النفس من الضروريات ، وهو أمر مطلوب على وجه الحتم واللزوم ، والاعتداء على النفس حرام .
وكذلك الزواج : فإنه يباح للرجل أن يتزوج أية امرأة شاء إن لم تكن محرمة عليه ، فهو مخير بين النساء يتزوج منهن ما شاء ، ولكن : مطلوب منه أن يتزوج ، إذ بذلك تستمر الحياة ، ولا ينقطع النسل ، وحفظ النسل ضروري [12] .
وللإنسان أن يلهو لهواً بريئاً ولكن على أن لا يقضي كل وقته أو أكثره في اللهو ، فهو مباح في أحوال خاصة . وله أن يترك وطء زوجته ولكن تركه بالكلية حرام لما فيه من الإضرار بها .


[1] ) الجوهري ، الصحاح 4 / 1517 ، الفيروز آبادي ، القاموس المحيط 1 / 224  0
[2] ) الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام 1 / 176  0
[3] ) الفراء ، العدة في أصول الفقه 1 / 167  0
[4] ) الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام  1 / 176 0
[5] ) الزركشي ، البحر المحيط 1 / 221 ، الإسنوي ، نهاية السول 1 / 82 ، الشوكاني ، إرشاد الفحول / 6 0
[6] ) رواه مالك في الموطأ ـ باب الطهور للوضوء 1 / 55  حديث رقم 37 ، وأبو داود ، سنن أبي داود ـ باب الوضوء بماء البحر 1 / 118 حديث رقم 76 ، والنسائي ، سنن النسائي ـ باب الوضوء بماء البحر 1 / 107 حديث رقم 330 0( صحيح ) ، الألباني ، إرواء الغليل 1 / 2 0
[7] ) الغزالي ، المستصفى 1 / 75 0
[8] ) الإمام مسلم ، كتاب الحيض ـ باب الوضوء من لحوم الإبل / صحيح مسلم بشرح النووي 4 / 48  0
[9] ) وهو ظاهر قول الإمام الشافعي ومالك وأصحابه ، وأحمد ، وهو قول معظم الأصوليين وأكثر الفقهاء ،  انظر :   الشيرازي ، التبصرة  / 38 ، الإسنوي ، التمهيد في تخريج الفروع على الأصول / 265 ، ونهاية السول  2 / 272 ، الفراء ، العدة في أصول الفقه  1 / 256 ، القرافي ، شرح تنقيح الفصول  / 139 ، الباجي ، إحكام الفصول / 86 ، ابن قدامة ، روضة الناظر  2 / 75 ، الكلوذاني ، التمهيد 1 / 179 ، البصري ، المعتمد 1 / 75 ، ابن برهان ، الوصول إلى الأًصول 1 / 159 0
وذهب فريق من العلماء إلى أن الأمر بعد الحظر يقتضي الوجوب ، ومنهم : الشيرازي / التبصرة / 38 واللمع / 67  ، وأبو الحسين البصري / المعتمد 1 / 75 ، وفخر الدين الرازي / المحصول 1 /159 ، وأبو المظفر السمعاني / التمهيد للإسنوي / 365 ، والبيضاوي /  المنهاج  ، والسرخسي / أصول السرخسي 1 / 19 ، والبزدوي / وشارح كتابه البخاري / كشف الأسرار 1 / 12 ، وابن حزم / الإحكام في أصول الأحكام 3 / 77 ، والمعتزلة / الأنصاري ، مسلم الثبوت 1 / 179 0
[10] ) ابن رجب الحنبلي ، جامع العلوم والحكم / 268 0
[11] ) الغزالي ، المستصفى 1 / 75 ، ابن رجب الحنبلي ، جامع العلوم والحكم / 268  0
[12] ) الشاطبي ، الموافقات 1 / 133 0

Post a Comment

Previous Post Next Post