تعريف التحريم :
الفرع الأول : التحريم لغة[1] :
مصدر من الفعل حَرَمَ : وهو المنع والتشديد .
فالتحريم ضد التحليل ، والوجوه التي تأتي عليها هذه الكلمة (حَرَم) تحتمل هذا المعنى .
فالحرمة : ما لا يحل انتهاكه ، والحرام ضد الحلال ، والحريم : حريم البئر وهو ما حولها ، إذ يحرم على غير صاحبها أن يحفر فيه . والحَرَمان: مكة والمدينة، سُميا بذلك لحرمتهما ، وأنه حرم أن يُحدث فيهما أو يُؤوى مُحْدِثٌ .
وأحرم الرجل بالحج : لأنه يحرم عليه ما كان حلالاً له من الصيد والنساء وغير ذلك .
 وكثيراً ما يُطلق التحريم ويراد به ضد التحليل ، ومنه قوله تعالى : {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ } (  النحل116 ) ، وقوله r : " الحلال بيّنٌ والحرام بيّنٌ " [2] ، كما يطلق مراداً به الواجب الثابت [3] ، ومنه قوله تعالى : {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } (  الأنبياء95 ) ، فقد رُوي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن معنى ذلك : أي واجب عليها . وعن سعيد بن جبير : أي عزم عليها [4] ، فكان معنى الآية : وواجب على قرية أردنا إهلاكها أنهم لا يرجعون عن الكفر إلى الإيمان [5] .
 والملاحظ أن لفظ " حَرَمَ " بالتخفيف يعني مَنَع وحَظرَ ، وأما لفظ " حَرَّمَ " بالتشديد فإنه يقتضي المبالغة في المنع والحظر .
ولئن كان هذان اللفظان ـ حَرَمَ وحَرَّمَ ـ يقتضيان المنع والحظر إلا أن بينهما تفاوتاً وافتراقاً ، إذ لفظ " حَرَمَ " قد يدل على النهي عن فعل ـ فيكون متعلقاً بحكم تكليفي ، وقد لا يكون للمكلف فيه دَور ، فقد يمنعه الله تعالى شيئاً ابتلاءً ، ولا يعني وصف المكلف بالحرمان أنه معاقب أو ممنوع من الشيء فقوله سبحانه وتعالى   :    {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } (  الذاريات 19 ) ، لا يعني كونه محروماً أنه يحرم عليه الأخذ من الزكاة ، بل هو من أصحاب ذلك الحق .
ولذلك يُستعمل مع لفظ حَرَمَ الذي بهذا المعنى لفظ ( من ) ، فتقول حرمه من كذا .          وأما لفظ " حرّم " بالتشديد : فهذا الأليق والأوفق بالحكم التكليفي ، وهو الأوضح استعمالاً بمعنى نهاه عن الشيء ، ومنعه من انتهاكه ، ويُستعمل مع ذلك اللفظ ِ لفظُ " على " ، فتقول : حرّم عليه كذا : بمعنى منعه من الفعل ، وهذا هو الأليق بموضوع بحثنا .

الفرع الثاني : التحريم اصطلاحاً  :
  الملاحظ أن التحريم والإيجاب متضادان باعتبار تقسيم أحكام التكليف ، فالحرام ضد الحلال [6] ، وليس ضد الواجب كما عدّه بعض العلماء [7] ، إذ إن بينهما ما هو مأذون في فعله وتركه وهو المباح .
ومن تعريفات العلماء للتحريم :
عرّفه الغزالي بأنه : ( ضد الواجب ) لأنه المقتضى تركه ، والواجب هو المقتضى فعله[8].  وقال القرافي : ( المحرم : ما ذّم فاعله شرعاً ) [9] .
وقال المرداوي في بيان ذلك: ( وهو: ما ذُمّ فاعله ولو قولاً ، وعمل قلب شرعاً ) [10] .
فخرج ( بالذم ) : المكروه والمندوب والمباح ، إذ لا ذم على الفعل .
وبقوله ( ولو قولاً ) : تدخل الغيبة والنميمة ونحوهما مما يحرم التلفظ به .
وبقوله ( ولو عمل قلب ) : يدخل في ذلك النفاق والحقد والحسد ونحوها .
وقيد ( شرعاً ) : متعلق ب ( ذم ) ، وفيه إشارة إلى أن الذم لا يكون إلا من الشرع .
ومن الجدير بالملاحظة : أن الحرمة ليست ملازمة للذم والإثم لا طرداً ولا عكساً ، فقد يأثم الإنسان على ما ليس بحرام ، وقد يحرم ما ليس فيه إثم [11] ، إذ الحِلُّ والحرمة تابعان لمقاصد الشريعة ، ومن رحمة الله أن جعل الإثم متوقفاً على العلم ، فإذا أقدم العبد على فعلٍ يعتقده حلالاً وهو حرام ٌ فلا إثم عليه ، تخفيفاً عن العبد ، وإذا أقدم على عمل يظنه حراماً وهو حلال عاقبه الله على جُرأته [12]على قصد الحرام .
التعريف المختار : يمكننا تعريف التحريم بأنه : ( خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين المقتضي ترك فعل على وجه الحتم واللزوم ) .
وأما الحرام  فهو: ( ما ورد الدليل الشرعي بالنهي عنه نهياً جازماً ) .
قيود التعريف :  " ما ورد الدليل " : يخرج به ما لم يرد دليل بتحريمه ، فلا يجوز تحريم ما لم يحرمه الله على الناس لقوله تعالى : {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ } (  النحل 116 ) ، والقول بلا دليل افتراء على الله ، وهو محرم .
وبلفظ " الشرعي " : يخرج كل دليل غير شرعي ، فلا تحريم بالهوى والتشهي ، إذ هو ضلال وانحراف عن الجادة ، وخروج عن المنهج القويم .
ويدخل في الشرعي ما ثبت بالسنة ، وما انعقد عليه الإجماع ، وما استنبطه المجتهدون بناء على قواعد الشرع ، ومراعاة مقاصد الشريعة .
ولفظ " النهي عنه " : يخرج به ما ورد الدليل الشرعي بطلب فعله ، سواء كان الطلب على وجه الحتم واللزوم أو بلا حتم ، كما يخرج به ما خُيّر فيه المكلف بين الفعل والترك وهو المباح .
وبلفظ  " نهياً جازماً " : يخرج ما لم يكن النهي عنه على وجه الحتم واللزوم وهو المكروه .
ويلاحظ هنا أنه لم يتعرض التعريف لقوة الدليل الذي ورد هل هو قطعي الثبوت أم ظني ؟ إذ لذلك أثره عند بعض الأصوليين ، وهو ما سنتطرق إليه في الصفحات القادمة إن شاء الله .
فالحرام أو المحرم هو: ( ما طلب الشارع الكف عنه على وجه الحتم واللزوم) ، فيكون التارك مأجوراً مطيعاً – إن كان تركه حسبة لوجه الله تعالى – وفاعله آثم عاصٍ .
ويطلق على الحرام أسماء كثيرة منها [13] :   المحظور ، والمعصية ، والممنوع ، والعقوبة ، والمزجور عنه ، والقبيح ، والسيئة ، والحرج ، والفاحشة ، والإثم ...  وغيرها .
وقد يُعبّر عن المحرم بالمكروه ، وهذا منقول عن الإمام الشافعي ، إذ كثيراً ما كان يقول :     " أكره كذا " وهو يريد به التحريم [14] .


[1] ) ابن منظور ، لسان العرب  12 / 120 ، الجوهري ، الصحاح  5 / 1897 ، معجم مقاييس اللغة 2 / 45 0
[2] ) الإمام البخاري ، الجامع الصحيح ـ كتاب البيوع ـ باب الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشبهات 3 / 69 ، والإمام مسلم ـ صحيح مسلم ـ كتاب المساقاة ـ باب أخذ الحلال  وترك الشبهات 3 / 1219 0
[3] ) ابن منظور ، لسان العرب  12 / 126 ، الجوهري ، الصحاح  5 / 1895 ، الزركشي ، البحر المحيط  1 / 255 0
[4] ) الطبري ، جامع البيان  10 / 17 / 86 0
[5] ) المرجع نفسه  10 / 17 / 86 ، الزركشي ، البحر المحيط  1 / 255 0
[6] ) ابن النجار ، شرح الكوكب المنير 1 / 386  0
[7] ) منهم : الغزالي ، المستصفى 1 / 76 ، والطوفي ، شرح مختصر الروضة  1 / 359  ،  وابن النجار ، شرح الكوكب المنير  1 / 386 0
[8] ) الغزالي ، المستصفى 1 / 76  0
[9] ) القرافي ، شرح تنقيح الفصول  / 71  0
[10] ) المرداوي ،  شرح التحرير / شرح الكوكب المنير  1 / 386  0
[11] ) الزركشي ، البحر المحيط  1 / 256  0
[12] ) يمكن أن يُمثل لذلك : بأكل لحم الميتة ، إذ هو محرم ولكن لا بأس بالأكل عند الاضطرار ، ولا إثم في ذلك ، وكذا القتل خطأ : لا إثم على القاتل خطأ  مع أن فعله محرم ،   وفي المقابل : من سرق مالاً ثم تبيّن أنه مالُه الذي كان أودعه عند المسروق منه فهو آثم مع أن المال المسروق مالُه ، لأن قصده لم يكن استيفاء ماله بل السرقة ،    الزركشي ، البحر المحيط  1 / 256 0
[13] ) الرازي ، المحصول 1 / 101 – 102 ، ابن جزي ، تقريب الوصول  / 101 – 102 الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام  1 / 161  ، ابن النجار ، شرح الكوكب المنير 1 / 387 ، صفي الدين البغدادي ، قواعد الأصول ومعاقد الفصول  / 10 ، الشوكاني ، إرشاد الفحول  / 6 0
[14] ) الرازي ،  المحصول 1 / 104 0

Post a Comment

Previous Post Next Post