نظرة الجمهور إلى طلب الترك الحتمي :
لم يرتض ِالجمهور ما ذهب إليه الحنفية في تقسيم طلب الترك الحتمي إلى تحريم وكراهة تحريم ، بل سوّوا بينهما في التسمية ، ولم يُفرقوا بين ما ثبت طلب تركه بدليل قطعي أو ظني ، فكل ما ورد الدليل بطلب تركه على وجه الحتم واللزوم يسمى عندهم حراماً [1] ، وهم بذلك يدخلون المكروه تحريماً في الحرام ، شأنهم في ذلك كطلب الفعل الحتمي لم يفرقوا فيه بين ما ورد بدليل قطع ي أو ظني ، فكله عندهم فرض أو واجب .
ولعل الأساس الذي اعتمده الجمهور في منهجهم يعود إلى :
1 .   أن كلاً من الحرام والمكروه تحريماً قد ورد الدليل بطلب الكف عنه على وجه الحتم واللزوم ، وبذلك استويا في الطلب ، فاستويا في الحكم .
2 .   يترتب على فعل كل منهما الإثم والعقاب ، وفي ذلك مخالفة للشارع الحكيم ، وعصيان له ، وهذه علامة استوائهما .
3 .   ليس في الشرع ما يدل على التفريق بينهما ، فقد حذرت الآيات القرآنية من الكذب على الله تعالى {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ } (  النحل 116 ) ، وواضح منها تقسيم القول إلى حلال وحرام ، وليس هناك أقسام أخرى للحرام ، والقول بوجود كراهة تحريم لا يقوم عليه دليل لغوي ولا شرعي .
4 .   ويمكن الاستدلال بقوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } (  الحشر7 ) فقد أمرت بطاعة رسول الله r ، وبالانتهاء عما نهى عنه ، والانتهاء هو الترك ، والمخاطب بهذا هم المسلمون ، وقد يصل إلينا نهي رسول الله r بطريق مقطوع به ، وقد يُنقل إلينا بطريق ظني ، والأمة مأمورة بقبولهما ، والعمل بمقتضاهما ، فلا مسوغ للتفريق بين الأحكام بناءً على قوة الأدلة . قال أبو الوليد الباجي : ( لا يمتنع من جهة العقل أن يتعبد الباري سبحانه وتعالى بالعمل بخبر من يغلب على ظننا ثقته وأمانته وإن لم يقع لنا العلم بصدقه كما تعبّدَنا بشهادة الشاهدين إذا غلب على ظننا ثقتهما وإن لم يقع لنا العلم بصدقهما ) [2]  .
أما استناد الحنفية إلى التقسيم بحسب الجحود : فقد ذهب الجمهور إلى أن من الحرام ما يكفر جاحده ، ومنه ما لا يكفر جاحده ، فما ثبت منه بدليل قطعي فإن جاحده كافر ، كمن أنكر حرمة الزنى أو الربا ، أو الخمر وما شابه ذلك .
ومن الحرام ما لا يكفر جاحده ، وهو ما ثبت بدليل فيه شبهة ، شأنهم في ذلك كما هو في جحود الواجب .
 ثم إن الجمهور لا ينكرون أن بعض المحرمات أقبح من بعض ، وأشد حرمة ، فالزنى محرم ولا خلاف في ذلك ، لكن الزنى بالأمهات أو المحارم أشد قبحاً ، وأعظم جرماً ، وكلاهما زنى محرم .
وأكل أموال الناس بالباطل حرام ، لكن أكل مال اليتيم ظلماً أشد حرمة ... وهكذا  .

وبعد هذا الاستعراض لمنهج كل من الحنفية والجمهور يلاحظ اتفاق الفريقين على :
1 .  تقسيم ما ورد طلب تركه على وجه الحتم واللزوم إلى مقطوع به ومظنون فيه .
2 .  أن بعض المحرمات أشد حرمة من بعض .
3 .  جاحد المحرمات الثابتة بدليل قطعي كافر ، وأن جاحد ما ثبت منها بدليل ظني لا يكفر .
4.  استحقاق فاعل الحرام والمكروه تحريماً الإثم ، وبالتالي ترتب العقاب .
5 .  لزوم الكف عما ورد الدليل بطلب الانتهاء عنه على وجه الحتم واللزوم ولو كان دليله ظنياً .
ومن هنا يمكن أن نحدد زاوية النظر التي أدت إلى اختلافهم :
فعند الحنفية : كانت نظرتهم مبنية على أمرين :
الأول :  قوة الدليل :  فقوة المبنى لها أثرها في قوة المعنى .
الثاني :  أثر الجحود : وهو في الدليلين مختلف ، فاختلف الحكم ، وبالتالي مسمى كل منهما .
أما الجمهور : فكانت نظرتهم مبنية على أمرين كذلك :
الأول :   كون الطلب المقتضي الترك حتمياً دون اعتبار لقوة الدليل ، فما دام الدليل الظني متصلاً ، وليس فيه شذوذ ولا علة قادحة فالواجب العمل به شأنه شأن القطعي .
الثاني :   ما يترتب على مخالفة الطلب : فما دام الذم والعقاب مترتباً على فعل المنهي عنه نهياً جازماً فلا وجه للاختلاف في الحقيقة .
وما ذهب إليه محمد بن الحسن من أن المكروه تحريماً حرام غير أن جاحده لا يكفر فهو عين مذهب الجمهور ، إذ إنهم لا يكفرون من جحد ما ثبت بدليل ظني .
وأما الاستدلال بالاحتياط في تسمية ما ثبت النهي عنه بالظني مكروهاً خشية الوقوع في الزلل فهو مُعارَضٌ بأن عدم تحريم ما ثبتت نسبته إلى رسول الله r تحفه المخاطر ، وتحيط به المحاذير ، وينبغي الاحتياط لذلك .
وبناءً على هذا كله فإن الذي يترجح ـ والله أعلم ـ هو ما ذهب إليه الجمهور ، فالمنهي عنه نهياً جازماً حرام ولو كان دليله ظنياً .
 فالعبرة بصحة نسبة الخطاب إلى الشارع ، ونحن لا نشك أبداً في صحة نسبة القرآن الكريم ، والسنة المتواترة ، وأما خبر الآحاد فالعبرة فيه : هل حقاً أن رسول الله r قاله ؟
فلما صحت النسبة ، واتصل السند ، وخلا من الشذوذ والعلل القادحة ، فما المانع من أن نثبت به من الأحكام ما أثبتناه بالمتواتر ؟! مع الاتفاق على حكم الجحود .
وبذلك يظهر أن الخلاف لفظي عند الأصوليين .


[1] ) إمام الحرمين ، البرهان 1 / 216 ، الغزالي ، المستصفى 1 / 65 ، الباجي ، الإشارة في معرفة الأصول / 180 ، القرافي ، شرح تنقيح الفصول  / 68 ، الشنقيطي ، نشر البنود 1 / 23  0
[2] ) الباجي ، الإشارة في معرفة الدليل / 236  0

Post a Comment

Previous Post Next Post