موضوع علم أصول الفقه
  لئن كان عالم أصول الفقه ، والفقيه متفقين في أن غاية كل منهما التوصل إلى الأحكام الشرعية ، إلا أن الأصولي يبين مناهج الوصول وطرق الاستنباط ، والفقيه يستنبط الأحكام فعلاً على ضوء القواعد التي قررها الأصولي .
وبذلك يتضح أن موضوع الأصول هو : الأدلة الكلية الإجمالية من حيث ما يثبت بها من الأحكام الكلية ، والأحكام الشرعية الكلية من حيث ثبوتها بالأدلة [1] .
فالأدلة الكلية هي مصادر الأحكام الشرعية : كالكتاب والسنة والإجماع والقياس ، والعلم بها يكون من حيث العلم بحجيتها ومنزلتها في الاستدلال بها ، ووجوه دلالة النص حسب اختلاف أحوال هذه الأدلة ، ومعنى الإجماع وشروطه ، وأنواع القياس وحجيته وعلته وطرق التعرف على هذه العلة .
يقول الإمام الشاطبي: ( كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية ، أو لا تكون عوناً في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية ) [2] .
ويرى بعض العلماء ـ كالآمدي[3] ـ أن موضوع الأصول مقصور على الأدلة الموصلة إلى الأحكام الشرعية المبحوث عنها فيه وأقسامها واختلاف مراتبها وكيفية استثمار الأحكام الشرعية عنها على وجه كلي، حيث إن العلم بهذه الأدلة هو الطريق الموصل إلى إثبات الأحكام لأفعال المكلفين ، فيكون التعرض للأحكام ليس من موضوع الأصول ، إلا أن الأَوْلى أنّ موضوع الأصول يشمل الدليل الكلي والحكم الكلي معاً.
 وإذا استعرضنا مسائل أصول الفقه نجدها عبارة عن قواعد كلية أو قضايا كلية موضوعها إما دليل كلي ، أو نوع من ذلك الدليل أو عرض من أعراضه .
مثال :  الدليل السمعي يفيد الحكم قطعاً أو ظناً ، وخبر الواحد يفيد الحكم ظناً ، والقياس المنصوص على علته حجة بالاتفاق ، والإجماع الصريح يُثبِتُ الحكمَ قطعاً بالاتفاق متى ثبت ، والإجماع السكوتي حجة عند بعض العلماء ، والأمر يفيد الوجوب ، والنهي يفيد التحريم ، والعام  يتناول جميع أفراده قطعاً ، أو ظناً على الخلاف ، والمطلق يدل على فرد شائع في جنسه من غير قيود ، والعام المخصوص يدل على ثبوت الحكم لأفراده ظناً .
ولا يقتصر علم الأصول على البحث في الأدلة الكلية ، بل يبحث في الأحكام الكلية ، كالإيجاب والندب ، والإباحة ، والكراهة والتحريم ، والصحة والفساد والبطلان ، والرخصة والعزيمة ، وكذا يبحث في دلالات الألفاظ وكيفياتها ، والنسخ ، والتعارض والترجيح ، وقواعد الاستنباط ... وغيرها . هذه هي موضوعات أصول الفقه .
أما الفقه :  فموضوعه : هو فعل المكلف من حيث ما يثبت له من أحكام شرعية .
 فهو يبحث في الأدلة الجزئية ليستخرج منها أحكاماً جزئية تتعلق بفعل المكلف . وهذا يضعنا أمام حقيقة وهي وجود أدلة جزئية وأحكام جزئية، يقابلها أدلة كلية وأحكام كلية.
 فالأدلة الكلية والأحكام الكلية هي موضوع  بحث عالم الأصول ، أما الأدلة الجزئية والأحكام الجزئية فهي موضوع بحث الفقيه .

الفرق بين الدليل الكلي والدليل الجزئي ، والحكم الكلي والحكم الجزئي :
الدليل الكلي: هو النوع العام من الأدلة الذي تندرج فيه عدة جزئيات ، مثل : القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس، والمصالح ، والعرف، فهذه أدلة كلية تشتمل جزئيات تفصيلية كثيرة .
وكذا يمكن القول بأن الأمر، والنهي، والعموم، والإطلاق والتقييد أدلة كلية ، إذ يتفرع عن كل منها جزئيات كثيرة .
فالأمر كلي : يندرج تحته جميع الصيغ التي وردت بصيغة الأمر[4] مثل قوله تعالى : {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } (  البقرة 4) ، وقوله سبحانه وتعالى :{ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } (  البقرة 196) ، وقوله جل شأنه :{ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } (          التوبة36 ) ، وقوله :ر{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا }  (   المائدة 38) ، وقوله تعالى :{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } (  (   النور 2) 
فالأمر دليل كلي ، والنص الذي ورد على صيغة الأمر دليل جزئي .

وكذلك النهي : كلي يندرج تحته جزئيات كثيرة تشتمل على الصيغ التي وردت بصيغة النهي[5]، مثل قوله تعالى : {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً }  (   الإسراء 22) ، وقوله جل وعلا : {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } (  الأنعام 152) ، وقوله : {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ }  (   البقرة 188) ، وقوله تعالى :{ فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ } (   البقرة 222) ، وقوله سبحانه :{وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ }  (   الإسراء 33  ).
 فالنهي دليل كلي ، والنص الوارد على صيغة النهي دليل جزئي .

  أما الحكم الكلي : فهو النوع العام من الأحكام الذي يندرج فيه جزئيات كثيرة ، مثل : الإيجاب ، والتحريم ، والكراهة ، والإباحة ، والصحة ، والفساد والبطلان ... .
فالإيجاب : حكم كلي يندرج تحته جزئيات مثل : إيجاب الصلاة ، وإيجاب الزكاة ، وإيجاب الصيام ، وإيجاب إتمام الحج والعمرة ، وإيجاب الوفاء بالعقود ، وإيجاب الشهود في الزواج .
والتحريم : حكم كلي يندرج فيه جزئيات ، مثل : حرمة الزنى ، وحرمة الربا ، وحرمة شرب الخمر ، وحرمة السرقة ، وحرمة الاستغابة والنميمة ، وحرمة الظلم .
فالإيجاب حكم كلي ، وإيجاب شيء معين حكم جزئي .
 والإباحة حكم كلي يندرج تحته جزئيات كثيرة ، وإباحة فعل معين حكم جزئي .
 والصحة حكم كلي ، وصحة فعل معين أو قول معين حكم جزئي .

عمل العلماء في اصول الفقه
بناء على ما سبق يمكن تحديد عمل الأصولي بأنه يبحث في الأدلة الكلية ، والأحكام الكلية ، فهو يبحث في الكتاب وحجيته ، ودلالة ألفاظه على الأحكام ، وفي السنة وحجيتها ، وحجية خبر الواحد ، والتخصيص بين الكتاب والسنة ، والنسخ وما يتعلق به ، والإجماع وحجيته ، وأنواعه ومتى يتحقق ، والقياس وحجيته وأركانه ، والعلة وشرائطها ، ومتى تصلح للعلية ومتى لا تصلح ....  .
 وكذلك يبحث في المصادر التبعية الأخرى : كالمصالح المرسلة ، والاستحسان ، والعرف ، وشرع من قبلنا ، وكذا يبحث في الأدلة إذا تعارضت في ظاهرها ، وهو يبحث أيضاً في دلالات الألفاظ على معانيها ، والعام وما يدل عليه ، والمطلق والمقيد ، والأمر والنهي ، والإيجاب والتحريم والكراهة ، والصحة والبطلان .
أما الفقيه : فهو يبحث في الأحكام المتعلقة بفعل المكلف ، وما يثبت له من أحكام شرعية ، أو الوظائف العملية من حيث التماسها من أدلتها . أي إنه يبحث في الدليل الجزئي ، والحكم الجزئي .
فالفقيه يبحث في بيع المكلف ، وإجارته وصلاته وصومه وحجه ، ووقفه ، لمعرفة الحكم الشرعي في كل فعل من هذه الأفعال ، وكل تصرف أو عقد من تلك العقود والتصرفات .
فالفقيه إنما يستخدم القواعد التي يرسمها الأصولي ليستنبط منها الأحكام الشرعية ثم يطبقها على أفعال الناس وأقوالهم ، وتعريف كل مكلف بما يجب عليه وما يحرم عليه .





[1] ) د ، الزحيلي ، أصول الفقه الإسلامي 1 / 27  0
[2] ) الشاطبي ، الموافقات 1 / 42 0
[3] ) الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام 1 / 23  0
[4] ) الأمر : قول الأعلى لمن هو أدنى منه افعل أو ما يقوم مقامها على جهة الاستعلاء ، وقد يكون يرد الأمر:
     أ ) بصيغة فعل الأمر " افعل " نحو قوله تعالى  {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } (  الإسراء26 0
  ب ) بصيغة الفعل المضارع المقترن بلام الأمر ، كقوله تعالى { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } (  البقرة185  0
  ج ) الجملة الخبرية التي لم يُقصد بها الإخبار، وإنما القصد الطلب المقتضي الإيجاب كقوله تعالى{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ } (  البقرة228،   فليس المقصود هنا الإخبار وإنما وجوب التربص ثلاثة قروء 0
   د ) الألفاظ التي تدل بذاتها على الإلزام بالفعل مثل : فرض ، كتب ، ألزم ، أوجب  0
   هـ) إذا ورد طلب فعل وترتب على ترك القيام بالفعل عقوبة ، أو توعدٌ بها ، أو ذم التارك ، فإن الصيغة هنا أمر 0
 حسن خضر ، دلالة صيغة الأمر على الأحكام الشرعية / 66 0
[5] ) النهي : ضد الأمر ، وهو قول الأعلى لمن هو أدنى منه لا تفعل أو ما يقوم مقامها على جهة الاستعلاء ، وقد يرد النهي:
    أ ) بصيغة الفعل المضارع المقترن بلا الناهية، كقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } (  الممتحنة1  0
  ب) فعل الأمر إذا دلّ على لزوم الترك كلفظ ( ذر، اجتنب ،دع، كُفّ ،،، الخ )، كقوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ   
            وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } (  البقرة278 ، وقوله سبحانه :{ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } (  الحج30
   ج ) أسماء الأفعال التي بمعنى لا تفعل ، مثل : ( مه ) ـ وهي كلمة زجر بمعنى اكفف ـ ، و ( صه ) ـ وهي كلمة بمعنى لا تتكلم ـ 0
   د ) الجملة الخبرية التي تدل على طلب الترك ، وليس مقصوداً بها مجرد الخبر ، وإنما تتضمن معنى النهي المفيد 
    لوجوب الترك ، كقوله تعالى {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } (  النساء93 ) 0 
   أمير باد شاه ، تيسير التحرير 1 / 375 0

Post a Comment

Previous Post Next Post