تعريف الفقه
معنى " الفقه "
الفرع الأول :   المعنى اللغوي للفقه :
يأتي الفقه في اللغة بمعنى العلم[1] والفهم[2] . وقيل : هو معرفة باطن الشيء والوصول إلى أعماقه .
قال فخر الدين الرازي : ( هو فهم غرض المتكلم من كلامه ) [3].
وقال الشيرازي : ( هو فهم الأشياء الدقيقة ) [4].
 وقد ورد استعمال لفظ الفقه في القرآن الكريم بمعنى الفهم ، ومن ذلك قوله تعالى : { فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } (   ( النساء78 ) ، وقوله تعالى في شأن مدين : {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ }  (      هود91)  ، وقوله تعالى : {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً }  (   الكهف 93)  .

الفرع الثاني : المعنى الاصطلاحي للفقه :
 عرفه أبو حنيفة بأنه : " معرفة النفس ما لها وما عليها " [5] .
لقد أطلق أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ لفظ الفقه على العلم بما للنفس وما عليها ، سواء كان ذلك في الاعتقاديات أو الوجدانيات أو العمليات [6] .
أما فخر الدين الرازي فقد عرف الفقه بأنه : ( العلم بالأحكام الشرعية المستدل على أعيانها بحيث لا يُعلم كونها من الدين ضرورة ) [7].
فالفقه هو : ( العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية ) .
شرح التعريف وبيان محترزاته :
المراد بالعلم هنا: مطلق الإدراك الشامل للظن واليقين ، وليس المراد به التصديق اليقيني ، لأن أكثر مسائل الفقه ظنية .
والأحكام : جمع حكم ، وهو إثبات أمر لآخر أو نفيه عنه . وليس المراد به معناه عند الأصوليين، والفقهاء ، إذ الحكم عند الأصوليين : ( خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييرأ أو وضعاً ) .         
وعند الفقهاء : ( الأثر المترتب على الخطاب ،  أي ما يثبت بالخطاب ) .
 ويحترز بهذا القيد " الأحكام " عن العلم بالذوات ، والصفات الحقيقية ، إذ إن هناك فرقاً بين قولك : الدم حرام _ وهذا حكم شرعي _ ، وبين قولك : الدم سائل أحمر ، إذ هذا وصف لذات الدم .
 والشرعية :  أي الأحكام المنسوبة إلى الشرع ، إما مباشرة أو بواسطة الاجتهاد ، لأن الشرع مصدرها .  فالمقصود بالشرعي : ما تتوقف معرفته على الشرع .
 وتقييد التعريف بأنها أحكام شرعية يحترز به عن :
  1 .  الأحكام العقلية : كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين ، وبأن الكل أعظم من الجزء ، والعلم بقبح الظلم وبحسن الصدق .
 2 .  الأحكام اللغوية ، كالفاعل مرفوع ، والمفعول به منصوب .
 3 .  الأحكام الحسية ، وهي التي تُدرك بالحس ، كقولنا : النار محرقة ، والشمس طالعة ، والخشب يطفو فوق الماء .
والعملية :   قيد يحترز به عن العلم بكون الإجماع حجة ، وخبر الواحد حجة ، والقياس حجة ، فإن كل ذلك أحكام شرعية مع أن العلم بها ليس من الفقه ، وليس علماً بكيفية عمل شيء.
 وكذا يحترز به عن الأحكام العلمية _ الاعتقادية _ وهو العلم بأصول الدين ، كالعلم بكون الإله واحداً ، وأنه سميع بصير ، والإيمان بالملائكة واليوم الآخر .
فالأحكام العملية تتعلق بما يصدر عن الناس من أعمال : كالصلاة ، والصيام ، والحج ، والبيع والإجارة ، والربا والرهن ، والوصية والمساقاة والمضاربة ، ....وغير ذلك .
 وعليه : فإنه يخرج من التعريف : الأحكام الاعتقادية ، والأحكام المتعلقة بتهذيب النفس من كضرورة الإيمان والرضا بقدر الله تعالى وقضائه ، والوفاء بالعهد وقبح الخلف فيه ، وذم البخل والكبر ، ولا يعني هذا أن لا أهمية لهذه الموضوعات في حياة المسلم، إذ لا قيمة للعمل إن لم يكن قائماً على عقيدة الإيمان بالله والإخلاص له .
المكتسب :  قيد يحترز به عن علم الله تعالى ، وعلم الملائكة بالأحكام الشرعية العملية ، وكذلك علم رسول الله r الحاصل من غير اجتهاد بل من الوحي ، فإن شيئاً من ذلك لا يسمى فقهاً في الاصطلاح ، لأنه غير مكتسب . 
  وكذلك لا يعتبر العلم بالأمور التي عُلم بالضرورة كونها من الدين : كوجوب الصلوات الخمس ، وصيام رمضان ، وحرمة الربا والزنى وشبهها ، لأنها مما لا يختلف فيه المسلمون،  فهي لشدة وضوحها ليست في حاجة إلى اجتهاد وبذل وسع في حصول العلم بها، إذ هي من المسلّمات.
وهذا الاحتراز الأخير مختلف فيه بين قائل به وغير معتبر له .
من أدلتها التفصيلية :  يخرج بهذا القيد العلم الحاصل للمقلد في المسائل الفقهية ، إذ إن العلم الذي حصل للمقلد لم يكن أخذاً من الأدلة التفصيلية، ولم يستدل المقلد على كل مسألة بدليل منفصل يخصها، وإنما اكتفى بما توصل إليه الفقيه، فلا علاقة له تفصيلاً.
والمراد بالأدلة التفصيلية : الأدلة الجزئية التي يتعلق كل منها بمسألة خاصة ، وينص على حكم معين لها ، لأن بحث الفقيه في الجزئيات ، إذ غرضه الوصول إلى الأدلة الجزئية : كجواز فعل معين أو حرمته ، أو صحة عقد أو عدم صحته .
وبالتقييد بالأدلة التفصيلية  تخرج الأدلة الإجمالية كالقرآن الكريم والسنة النبوية ، لأنها مجال بحث الأصولي .
     وبعد أن أصبح الفقه علماً مدوناً مستقلاً صار يطلق على العلم بالأحكام الشرعية ، كما يطلق على نفس الأحكام ، فتقول : درست الفقه الإسلامي أي أحكامه .
وعليه : فإنه بعد أن عرفنا معنى كلمتي " أصول ، وفقه " : أصبح معنى أصول الفقه المركب في الاصطلاح بأنه : ( أدلة الفقه وجهات دلالتها على الأحكام الشرعية وكيفية حال المستدل بها من جهة الجملة لا من جهة التفصيل ) [8].
فالفقه كما قال الإمام الغزالي: " عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين خاصة ... فلا يطلق اسم الفقيه على متكلم وفلسفي ونحوي ومحدث ومفسر .
وقال فخر الدين الرازي [9]: " عبارة عن مجموع طرق الفقه على سبيل الإجمال ، وكيفية الاستدلال بها ، وكيفية حال المستدل بها " [10] .

معنى مصطلح أصول الفقه عند العلماء .
جعل العلماء كلمة " أصول الفقه " عَلَماً على العلم المخصوص والذي يمكن القول بأنه :
( إدراك القواعد التي يمكن بها استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية ) .
أمثلة :    1 .  قوله تعالى : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } ( النساء 23 ) دليل تفصيلي _ جزئي _  يتعلق بمسألة خاصة وهي نكاح الأمهات ، ويدل على حكم معين ، وهو حرمة نكاح الأمهات ، والتحريم حكم كلي ، وقد ثبت هنا بنص قرآني، والقرآن دليل كلي .
            2 .   قوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ } (   الإسراء33)  دليل تفصيلي يتعلق بمسألة معينة وهي القتل بغير حق ، ويدل على حكم خاص بها وهو حرمة الاعتداء على النفس بغير حق ، والتحريم حكم كلي.
          3 .   قوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (   التوبة 36) دليل تفصيلي يتعلق بمسألة معينة وهي مقاتلة الكفار ، ويدل على حكم خاص بها وهو وجوب مقاتلة المشركين ، والإيجاب حكم كلي.
        4 .   قوله r : " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " [11] دليل جزئي يتعلق بمسألة معينة وهي ماء البحر وميتته ، ويدل على حكم خاص هو إباحة التطهر بماء البحر ، وإباحة أكل ميتة البحر ، والإباحة حكم كلي ، وقد ثبت هنا بنص من السنة النبوية ، والسنة دليل كلي يندرج تحتها جزئيات كثيرة .       
       5 .    الإجماع على أن ميراث الجدة السدس : وهذا دليل جزئي يخص مسألة معينة ، وهي ميراث الجدة ، والإجماع دليل كلي.
قال الإمام الغزالي [12]: " فأحكام الأفعال من حيث إنها واجبة ومحظورة ومباحة ومكروهة ومندوب إليها فإنما يتولى الفقيه بيانها. وإذا عُلم هذا فإن أصول الفقه عبارة عن أدلة هذه الأحكام وعن معرفة وجوه دلالتها على الأحكام من حيث الجملة لا من حيث التفصيل ".
 إن الفقيه يبحث في الدليل الجزئي ، لأن غرضه الوصول إلى الأدلة الجزئية ليستنبط منها أحكاماً جزئية تتعلق بفعل المكلف .
أما بالاعتبار الثاني ـ  العَلَمِيّةِ ـ  : فإن أصول الفقه في رأي الكمال بن الهمام [13]: " إدراك القواعد التي يُتوصل بها إلى استنباط الفقه ، أو هو نفس الفقه " .
فأصول الفقه هو : إدراك القواعد التي يتوصل بواسطتها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية .
شرح التعريف :  لفظ " قواعد " : جمع قاعدة ، وهي قضية كلية ينطبق حكمها على جزئيات كثيرة هي أفرادها ، مثل : الأمر للوجوب ، والنهي للتحريم ، والعام يشمل جميع ما يصلح له من الأفراد من غير حصر بفئة منهم ، وأن المطلق يدل على فرد شائع في جنسه من غير قيود .
"فالأمر للوجوب" قضية كبرى تفيد أن الإيجاب ثابت لكل فرد من أفراد الأمر المطلق الموجود في القرآن والسنة . فقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } (   المائدة1)  يوجب الوفاء بالعقد من غير تحديد لعقد معين .
 و"النهي للتحريم" قاعدة كلية يندرج تحتها جزئيات كثيرة :  كتحريم الزنى ، والربا ، والغيبة والنميمة ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ، وشرب الخمر ...وغيرها .
فقوله تعالى : {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } (   البقرة 188) يوجب ترك أكل الأموال بالباطل ، ويفيد حرمة ذلك بكل صوره وأشكاله .
وعليه : فإن الفقيه الذي ينظر في الأدلة التفصيلية لا يستطيع أخذ الحكم الشرعي العملي من الدليل الجزئي قبل أن يعرف الحكم الكلي الذي يندرج تحته هذا الحكم الجزئي، وذلكم الحكم هنا هو أن الأمر يفيد الوجوب، وأن النهي يفيد التحريم.
مثال :  الأمر بالوفاء بالعقود الثابت بقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ }  (   المائدة 1)  لا يُعلم منه وجوب الوفاء بالعقود إلا إذا كان معلوماً لدى الفقيه أن الأمر الكلي يفيد الوجوب ، ومن غير علمه بهذا لا يستطيع إثبات إيجاب ذلك الفعل .
وكذلك فإن الواجب ـ بحسب الآية ـ الوفاء بكل ما يُسمى عقداً، عملاً بعموم لفظ (العقود) .
 والبحث في القواعد الكلية كقاعدة الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، والعام يشمل كل ما يصلح له من الأفراد، وغيرها هو مجال عمل الأصولي، ثم إن دوْرَ الفقيه هو الإفادة من تلك القواعد، واستخدامها في فهم الدليل الجزئي الممثل بالآية أو الحديث أو غيره.
فإذا عرف الفقيه قواعد الأصول سهل عليه استنباط الأحكام بواسطتها .
وبذلك يمكن القول إن " أوفوا بالعقود " أمر مطلق ، وهو للوجوب . وبذلك يحكم الفقيه بوجوب الوفاء على المتعاقدين ، وهو الحكم الشرعي الذي يبحث عنه الفقيه .



[1] )  ابن منظور ، لسان العرب 13 / 522 ، الزبيدي ، تاج العروس 1 / 8233 0
[2] ) الفراء ، العدة في أصول الفقه 1 / 67  ، الطوفي ، شرح مختصر الروضة 1 / 129 ، الشوكاني ، إرشاد الفحول  3 0
[3] ) الرازي ، المحصول 1 / 9  0
[4] ) الشيرازي ، شرح اللمع ، 1 / 157  ،
[5] ) صدر الشريعة ، التوضيح لمتن التنقيح 1 / 10 ، منلا خسرو ، مرآة الأصول 1 / 44 0
قال الكاساني : ( فإنه لا علم ـ بعد العلم بالله وصفاته ـ أشرف من علم الفقه ، وهو المسمى بعلم الحلال والحرام وعلم الشرائع والأحكام ) / بدائع الصنائع 1 / 1 .
[6] ) التفتازاني ، التلويح لمتن التوضيح 1 / 11 0
[7] ) الرازي ، المحصول 1 / 10  0
[8] ) الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام 1 / 8
[9] ) الرازي ، المحصول 1 / 11
[10] ) الغزالي ، المستصفى 1 / 11 - 12
[11] ) رواه مالك في الموطأ ـ باب الطهور للوضوء 1 / 55  حديث رقم 37 ، وأبو داود ، سنن أبي داود ـ باب الوضوء بماء البحر 1 / 118 حديث رقم 76 ، والنسائي ، سنن النسائي ـ باب الوضوء بماء البحر 1 / 107 حديث رقم 330 0
[12] ) الغزالي ، المستصفى 1 / 12  0
[13] ) ابن الهمام ، التحرير / تيسير التحرير 1 / 25 0

Post a Comment

Previous Post Next Post