المطابقة بين الفعل والفاعل :
     الفعلُ مسندٌ والفاعلُ مسندٌ إليه ، جاء في شرح المفصل : " واعلم أنَّ الفاعلَ في عرف النحويين ، كلُّ اسم ذكرتَه بعد فعلٍ ، وأسندتَ ونسبتَ ذلك الفعلَ إلى ذلك الاسمِ " .

     ويعرفُهُ ابنُ الحاجب بقوله : " هو ما أسند إليه الفعلُ ، أو شبهه ، وقُدم عليه ، على جهة قيامه به مثل : (قامَ زيدٌ) و (زيدٌ قامَ أبوهُ ) … " .

     إنَّ عملية الإسناد بين الفعل والفاعل ، يتبعها تطابقٌ بين هذين الطرفين ؛ لكونهما متلازمين ، وإنَّ مدارَ الحديث حول المطابقة بينهما يكون في محورين :

الأول : المطابقة بين الفعل والفاعل في الجنس ، أي التذكير والتأنيث .

الثاني : المطابقة بين الفعل والفاعل في العدد ، أي الإفراد والتثنية والجمع .

أولاً - المطابقة في الجنس :

     فإذا جاء الفاعلُ مذكراً ، ذُكِّرَ الفعلُ لأجله ، وإذا جاء الفاعل مؤنثاً ، ألحقتْ علامة التأنيث بالفعل ، ، هذا هو الأصلُ .

     إنَّ الحديثَ حول المطابقة بين الفعل وفاعله المذكر لا إشكالَ فيه ، فلا يُؤنثُ فعلٌ وفاعلُهُ مذكرٌ مفردٌ أو مثنىً أو جمعٌ سالمٌ ، وما جاء في القرآن الكريم يؤيدُ هذا .
     فمثال (الفاعل المفرد المذكر) ، قوله تعالى : خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ (البقرة:7) ، وقوله تعالى : وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً (النساء:120) وغير ذلك ، كثيرٌ جداً في القرآن الكريم . 1   ومثال (الفاعل المثنى المذكر ) ، قوله تعالى : يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَان (آل عمران:155) ، وقوله تعالى : قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهمَا  (المائدة:23) ، وغير ذلك .2
  
    وأما مثال (الفاعل الجمع المذكر السالم) ، قوله تعالى : وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (البقرة:159) ، وقوله تعالى : يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ (المائدة:44) ، وقوله تعالى : وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (الأنفال:8) ، وغير ذلك  .

     نلاحظ أنَّ الفعل قد طابق فاعلَه في التذكير والتأنيث ، سواءٌ كان الفاعلُ مفرداً ، أم مثنىً ، أم مجموعاً جمعَ مذكرٍ سالماً .

     وأما الفاعلُ المؤنثُ وإلحاق علامة التأنيث بفعله ، فأمرٌ فيه تفصيل ، يقول الرضي : " إعلمْ أنه إنما جاز إلحاقُ علامة التأنيث بالمسند ، مع أنَّ المؤنث هو المسند إليه دون المسند ؛ للإتصال الذي بين الفعل – وهو الأصل في الإسناد – وبين الفاعل ، وذلك الاتصال من جهة احتياجه إلى الفعل ، وكون الفاعل كجزءٍ من أجزاء الفعل "4.

     إذن ، الاتصال بين الفعل والفاعل ، المتمثل في احتياج الفعل لفاعله ، ولكون الأخير جزءاً من أجزاء الأول ، هو سببُ إلحاق علامة التأنيث بالفعل إذا كان فاعله مؤنثاً .
     إلا أنَّ هذا الإلحاقَ ليس على إطلاقه ، فهناك إلحاقٌ واجبٌ ، وآخرُ جائزٌ ، فالواجبُ في موطنين :
أولهما :
        أن يكون الفاعلُ ضميراً مؤنثاً متصلاً بعامله ، سواءٌ أكان ذلك المؤنث حقيقي التأنيث ، أم  
 مجازي التأنيث   ، وذلك نحو قولنا : (هندٌ قَامتْ) و (الشمسُ طلعتْ) .

ثانيهما :
          أن يكون الفاعلُ اسماً ظاهراً حقيقيَّ التأنيث غيرَ مفصول عن عامله ، وذلك نحو قولنا : (قَامتْ هندٌ) و (جاءتْ زينبُ) .

     يقول المبردُ : " فأما (ضَرَبَ جاريتُكَ زيداً) و (جاءَ أمَتُكَ) و( قامَ هندٌ) ، فغيرُ جائزٍ ؛ لأن تأنيثَ هذا تأنيثٌ حقيقيٌّ " ، ويقول ابنُ يعيش : " فإن أسندتَ إلى مضمرٍ مؤنثٍ ، نحو ( الدارُ انهدمتْ) و (موعظةٌ جاءتْ) ، لم يكن بدٌّ من إلحاق التاء ؛ وذلك لأن الراجعَ ينبغي أن يكون على حسب ما يرجع إليه ؛ لئلا يُتوهم أن الفعلَ مسندٌ إلى شئٍ من سببه ، فَيُنتَظَرُ ذلك الفاعلُ ، فلذلك لزم إلحاقُ العلامةِ لقطع هذا التوهم … وسواءٌ ذلك في الحقيقيِّ وغيرِ الحقيقيِّ " .

     إنَّ النظم القرآني قد حافظ على المطابقة بين الفعل وفاعله في كلتا الحالتين اللتين ذكرناهما ، حيثُ جاء في هذا الكتاب العزيز ، الفاعلُ المؤنث المضمر - حقيقيه ومجازيه - مع فعله ، وقد أُنثَ هذا الفعلُ بإلحاق علامة التأنيث به ، ومواطنه كثيرةٌ جدا في القرآن الكريم ، فمن ذلك قوله تعالى : فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى  (آل عمران:36) ، وقوله تعالى : وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا (يوسف:24) هذا في الحقيقي ، وأما المجازي ، فنحو قوله تعالى : وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْه  (البقرة:211) ، وقوله تعالى : وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ (التوبة:25) ، وغير ذلك كثيرٌ جداً .
     أما أمثلة الفاعل الظاهر الحقيقي التأنيث المتصل بفعله ، فنحو قوله تعالى : إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَان  (آل عمران:35) ، وقوله تعالى : إِذْ تَمْشِي اُخْتُك  (طـه:40) وغيرُ  ذلك  .

     ويستثنى مما مضى ، ما يأتي :
أولاً : ( وجود الفاصل بين الفعل وفاعله الظاهر الحقيقي التأنيث ) .

     يقول سيبويه : " وكلما طال الكلامُ فهو أحسن ، نحو قولك : (حَضَرَ القاضيَ امرأةٌ) ، لأنه إذا طال الكلامُ كان الحذفُ أجمل ، وكأنه شيءٌ يصيرُ بدلاً من شيءٍ ، كالمعاقبة ، نحو قولك : (زنادقةٌ) و (زناديقٌ) ، فتحذف الياءَ لمكان الهاءِ " ،ويقول جرير :

     لَقَـد وَلـَدَ الأُخَيطِلَ أُمُّ سـَوْءٍ      عَلــى بَابِ اُستِهَا صُلُبٌ وشَـامُ ،

فالفاعلُ حقيقي ولم يؤنث لأجله فعلُهُ ، وذلك بسبب الفصل بينهما بالمفعول به .
     ويقول المبرد : " ألا ترى أن النحويين لا يقولون : (قامَ هندٌ) و (ذهبَ جاريتُكَ) ، ويجيزون : (حَضَرَ القاضيَ اليومَ امرأةٌ يا فتى) ، فيجيزون الحذفَ مع طول الكلام ؛ لأنهم يرون ما زاد عوضا مما حُذفَ "
     إن إثبات التاء هنا أحسن وأجود " وقيل واجبٌ " ، وبه جاء التنزيلُ ، قال تعالى : فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ (القصص:25) وقال تعالى : حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً (الاحقاف:15) ، حيثُ فُصل بين الفعل وفاعله بالمفعول به ، واُثبتتِ التاءُ .

    أما ( الفاعل الظاهر المجازي التأنيث المفصول عن فعله ) فقد ورد في القرآن الكريم وعامله مجردٌ من علامة التأنيث في مواطن ، وفي غيرها ألحقت به العلامة ، يقول سيبويه : " ومما جاء من الموات قد حُذفت فيهِ التاءُ ، قولُه عزَّ وجلَّ : فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى ، وقوله تعالى : مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ، وهذا النحو كثيرٌ في القرآن " .

     وقد قيل إنَّ الأجودَ حذفُ العلامةِ " إظهاراً لفضل الحقيقي على غيره " ، وليس بسديد ؛ لأنَّ الاستعمالَ يشهدُ بخلاف ذلك ، فمواطن تأنيث الفعل مع الفاعل المجازي التأنيث المفصول عن عامله ، أكثرُ بكثير من تذكير الفعل مع هذا النوع من الفاعل .

  يقول الدماميني رداً على من يقول بأجودية حذف العلامة في مثلِ هذا التركيب : " والذي يظهرُ لي خلافُ ذلك ، فإن الكتابَ العزيز قد كَثُرَ فيه الإتيانُ بالعلامة عند الإسناد إلى ظاهرٍ غير حقيقي كثرةً فاشيةً000وأكثريةُ أحدِ الاستعمالين دليلُ أرجحيته ، فينبغي أن إثبات العلامة أحسن " .                    وتطبيق ذلك في القرآن الكريم على النحو الآتي : فمثال الإتيان بالعلامة قوله تعالى : وَأَحَاطَتْ
بِهِ خَطِيئَتُهُ (البقرة:81) ، وقوله تعالى : فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ (النساء:72) ، وقوله تعالى : نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ (المائدة:52) ، وغير ذلك كثيرٌ جداً . 

     وأما مثالُ ترك العلامة ، فنحو قوله تعالى : فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ (البقرة:275) ، وقوله تعالى : وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيث  (المائدة:100) ، وغير ذلك .

ثانياً : ( الفاعلُ مؤنثٌ مجازي ) .

     إذا كان الفاعلُ مؤنثاً مجازياً ، جاز تركُ علامةِ التأنيث مع فعله ، يقول المبردُ : " فأما (ضُرِبَ جاريَتُكَ) و (جاءَ أمَتُكَ) و (قامَ هندٌ) ، فغيرُ جائزٍ ؛ لأن تأنيثَ هذا تأنيثٌ حقيقيٌّ ، ولو كان من غير الحيوان لصلح ، وكان جيداً ، نحو : (هُدِمَ دارُكَ) و (عَمُرَ بلدتُكَ) ؛ لأنه تأنيثُ لفظٍ لا حقيقية تحته ، كما قال عزَّ وجلَّ : وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ  ، وقال أيضاً :  فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ " .

     ويقول ابن يعيش : " فإن كان المؤنثُ غيرَ حقيقي، بأن يكون من غير الحيوان ، نحو : النعل والقدر والسوق ، ونحو ذلك ، فإنكَ إذا أسندتَ الفعلَ إلى شيءٍ من ذلك ، كنتَ مخيراً في إلحاقِ العلامةِ وتركها ، وإن لاصقَ ، نحو : (انقطعَ النعلُ) و (انقطعتِ النعلُ) … لأن التأنيثَ لما لم يكنْ حقيقياً ضعفَ ، ولم يعين بالدلالة عليه ، مع أن المذكر هو الأصلُ ، فجاز الرجوعُ إليه " .

     إلا أن النظم القرآني قد حافظَ على المطابقة بين الفعل وفاعله من هذا النوع ، بإلحاق علامة التأنيث بالفعل ، سواءٌ كان الفاعلُ متصلاً بفعله أم منفصلاً عنه ، فقد بلغت مواطنُ الإتيان بالعلامة خمسة أضعاف المواطن التي تُركت فيها هذه العلامةُ .     
 فمثالُ إلحاق العلامة مع الاتصال ، قوله تعالى : فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ (البقرة:16) ، وقوله تعالى :  قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ (آل عمران:118) وغير ذلك كثيرٌ جداً .
    ومثالُ إلحاق العلامةِ مع الانفصال ، قوله تعالى :وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً (البقرة:80) ، وقوله تعالى :  حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّار  (آل عمران:183) ، وغير ذلك .3
أما مثالُ ترك العلامة ، فنحو قوله تعالى : فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ (البقرة:275) ، وقوله تعالى : وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ (المائدة:100) ، وغير ذلك 4، ومواطنه في القرآن الكريم أقلُ بكثير من مواطن إلحاق العلامة .

ثالثاً : ( الجموع ) .

     لقد جوَّزَ النحاةُ تذكير الفعل وتأنيثه عند إسناده إلى الجموع - عدا جمع المذكر السالم -5،
فالتذكير على التأويل بالجمع ، والتأنيث على التأويل بالجماعة6 ، ويرى سيبويه أنَّ حذف العلامة في الجمع مع الموات أكثر منه مما لو كان في الحيوان .7

     وهذا الجمع يشمل : جمع المؤنث السالم ، وجمع التكسير ، واسم الجمع ، يقول المبردُ : " ألا ترى أن القومَ اسمٌ مذكرٌ ، وقال عزَّ وجلَّ : كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ؛ لأن التقدير والله أعلم ، إنما هو جماعة قوم نوح "   .
      ويقول ابنُ يعيش : " قد تقدم القولُ أنَّ الجمعَ يكسب الاسم تأنيثاً ؛ لأنه يصير في معنى الجماعة ، وذلك التأنيثُ ليس بحقيقي ؛ لأنه تأنيثُ الاسم لا تأنيث المعنى ، فهو بمنزلة (الدار) و(النعل) ونحوهما ، فلذلك ( إذا أسندَ إليه فعلٌ ، جاز في فعله التذكيرُ والـتأنيثُ ) فالتأنيثُ لما ذكرناه ، والتذكيرُ على إرادة الجمع " .

     وهذه الجموع هي :

1 - (جمع المؤنث السالم ) :

وهو حقيقي ومجازي ، فسيبويه يرى أن ترك العلامة مع جمع المؤنث السالم يكون في الموات دون الحيوان .
     وقد وافق المبردُ سيبويه ، معللاً ذلك بقوله : " لأنَّ هذا جمعٌ حقيقيٌّ ، لا يغير الواحد عن بنائهِ " ، ويقول ابنُ يعيش : " فما كان منه لمؤنثٍ ، نحو المسلمات و الهندات ، كان الوجهُ تأنيثَ الفعلِ " ، وهو مذهبُ جمهور البصريين ، وذلك لأنَّ جمعَ المؤنث السالم ، مؤنثٌ من وجهين ، أحدهما : إنَّ مفرَدَهُ مؤنثٌ ، والثاني : تقديره بالجماعة ، ولو ذكرَّنا فعله ، يكون ذلك التذكير من جهة التأويل بالجمع فقط .
     أما الرضي ، فيرى أنَّ هذا الجمع - حقيقيه ومجازيه - كالمؤنثِ المجازي ؛ لأنَّ مفرده يتغير من حيثُ العلامة " إما بحذفها إن كان تاءً ، نحو : (الغرفات) ، أو بقلبها ، إن كان ألفاً ، كما في (الحبليات) و (الصحراوات) " ، فيجوز عنده إثباتُ العلامة ، ويجوز تركُها .

     إن النظم القرآني قد حافظ على المطابقة بين الفعل وفاعله المجموع جمعَ مؤنثٍ سالمٍ ، في مواطنَ تزيد كثيراً على مواطن ترك العلامة ، وكان في أغلب هذه المواطن مجازيَّ التأنيث ، فمثالُ إلحاق العلامة قوله تعالى :  مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ (البقرة:209) ، وقوله تعالى : بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا  (الأعراف:22) ، وغير ذلك .


       أما مواطنُ تذكير الفعل فهي أقلُ بكثير من مواطن التأنيث وذلك نحو قوله تعالى : وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَات  (آل عمران:86) ،وقوله تعالى :  فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا  (النحل:34) ،وغير ذلك .
   
     وإننا لو تتبعنا هذه المواطن (مواطن التذكير) ، لوجدناها كلَّها قد فُصل فيها الفاعلُ عن فعله بفاصل ، إلا في موطنٍ واحدٍ ، وهو قولُه تعالى :   ذََهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي  (هود:10) ، وأما جمع المؤنث السالم الحقيقي التأنيث ، فقد ذُكِّر فعله في موطنين ، هما قوله تعالى   :إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَات  (الممتحنة:10) ، وقوله تعالى :  إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَات  (الممتحنة:12) ، وذلك لأجل الفصل بالكاف ، أو على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، أي إذا جاءكم أو جاءك النساءُ المؤمناتُ ، أو تُقدرُ (أل) في المؤمنات بـ (اللاتي) ، وتكون هذه الأخيرةُ اسمَ جمع ، وهو  مما يجوز فيه الوجهان على ما سنعرف لاحقاً ، ويكون التقدير : اللاتي آمنَّ .
2- ( جمع التكسير) :

     وهو أيضاً مما يجوز فيه الوجهان ؛ ذلك لأنَّ مفرده قد تغير ، يقول ابنُ يعيش : " فما كان من الجمع مكسَّراً ، فأنتَ مخيرٌ في تذكير فعله وتأنيثه ، نحو : (قامَ الرجالُ) و (قامتِ الرجالُ) ، من غير ترجيحٍ ؛ لأنَّ لفظ الواحد فيه قد زال بالتكسير وصارت المعاملةُ مع لفظ الجمع " ، ولا فرق في ذلك بين جمعِ التكسيرِ المذكرِ وجمعِ التكسيرِ المؤنثِ .

    إنَّ النظم القرآني قد أتى بعلامة التأنيث في مواطنَ كثيرةٍ جداً بالنسبة إلى مواطنِ تركها ، سواءٌ أكان الفاعلُ متصلاً بفعله أم منفصلاً عنه .

     فمثاله في حالة الاتصال ، قوله تعالى :  تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ (البقرة: 118) ، وقوله تعالى : وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ  (آل عمران:42و45) ، وغير ذلك . 

     أما مثاله في حالة الانفصال ، فنحو قوله تعالى : تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ (البقرة:266) ، وقوله تعالى :  قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ  (آل عمران:13)وغير ذلك  ، وهذان الموطنان متساويان تقريباً في عدد ورودهما في القرآن الكريم .

     أما التذكير ، فهو أقلُّ من سابقه ، وقد أتى بصورتين أيضاً ، فمثاله في الاتصال قوله تعالى : سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّـاس  (البقرة:142) ، وقوله تعالى :  وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْن (الأعراف:113) ، وغير ذلك .

     أما مثاله في حالة الانفصال ، فنحو قوله تعالى : وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ (البقرة:74) وقوله تعالى : قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَات  (آل عمران:183) ، وغير ذلك  ، وحالة الانفصال هذه ، أقلُّ من سابقتها في القرآن الكريم .

3 –  (اسم الجمع ) 
    
      وهو الذي ليس له واحدٌ من لفظه ، نحو : نساء وقوم ، وقد عبر عنه سيبويه عند حديثه عن تحقير اسم الجمع بقوله : " هذا بابُ تحقير : " هذا بابُ تحقير ما لم يُكسر عليه واحد الجمع ، ولكنه واحدٌ يقعُ على الجميع " .

     يقول الرضي : " وأما اسم الجمع بعضه واجب التأنيث كالإبل والغنم والخيل ، فحاله كحال جمع التكسير في الظاهر والضمير ، وبعضه يجوز تذكيره وتأنيثه ، كالركب ، قال :
   
        فَعَبَّتْ غِشَاشـَاً ثُمَّ مـَرَّتْ كأنهَا      مَعَ الصُبحِ رَكبٌ من أُحَاظَةَ مُجفِلُ

فهو كاسم الجنس ، نحو (مضى الركبُ) و(مضتِ الركبُ)، و(الركبُ مضى ومضتْ ومضوا) " .
     وورد هذا الفاعلُ في القرآن الكريم مرةً بتذكير فعله ، وأخرى بتأنيثه ، ومواطنهما متقاربة العدد ، فمثالُ تأنيث الفعل قوله تعالى :  وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى   (البقرة:120) ، وقوله تعالى :  وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (آل عمران:69) ، وغير ذلك. 

     أما مواطنُ التذكير ، فنحو قوله تعالى : نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ (البقرة:100) ، وقوله تعالى : وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب  (البقرة:109) ، وغير ذلك .

     إنَّ أقوالَ النحاة حول إلحاق علامة التأنيث بالفعل مع الجموع ، تتوافق في جموع محددة ، وتختلف في جموع أخرى ، فكما مرَّ بنا ، نجد الكوفيين يُجيزون إلحاق العلامة وتركها مطلقاً بفعل كلِّ الجموع ، حتى المذكر السالم منها ، وقد وافقهم أبو عليٍّ الفارسيِّ ، إلا على جمعِ المذكرِ السالمِ ، فإنَّهُ أوجب فيه التذكيرَ ، وأما البصريون ، فيُجيزون الوجهين في جمع التكسير واسم الجمع ، ويُوجبون التذكيرَ في جمع المذكر السالم ، والتأنيثَ في جمع المؤنث السالم .
     إنَّ الآياتِ التي ورد فيها الفاعلُ مؤنثاً سواءٌ أكان حقيقياً أم مجازياً ، وسواءٌ أكان ظاهراً أم مضمراً ، وسواءٌ أكان مفرداً أم مثنىً أم جمعاً ، في حالة اتصاله بفعله أو انفصاله ، نجدُ أنَّ فعله قد ألحقت به علامةُ التأنيث في أغلب المواطن ، والتي تصلُ إلى ضعفي مواطن ترك العلامة ، بعبارةٍ اُخرى ، إنَّ القرآن الكريم حافظ على المطابقة بين الفعل وفاعله المؤنث ، بإلحاق علامة التأنيث بالفعل بنسبة أكبر من ترك هذه المطابقة .

     إلا أنَّه لا يجدرُ بنا تجاهل الآياتِ التي ورد فيها تركُ العلامة ، ولو دققنا النظر في تعليل النحاة لبعض مواطن التذكير ، فإننا لا نجدُ فيها قوةَ الحجةِ ، بل إنَّ هناكَ بعض الآيات تنقض ما ذهبوا إليه في مثل تلك التعليلاتِ ، من ذلك مثلاً قولُ النحاة : إنَّ الفصل بين الفعل وفاعله المؤنث ، يُبيحُ تركَ علامةِ التأنيثِ " وكلما طال الكلامُ فهو أحسن ، نحو قولكَ : (حَضَرَ القاضيَ امرأةٌ) ، لأنَّه إذا طال الكلامُ كان الحذفُ أجمل …" .
     لكننا نجد في قوله تعالى :   فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ (البقرة:275) ، وقوله تعالى :     يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ (يونس:57) ، أنَّ الفاصلَ في الآية الأُولى : (الهاء) أقلَّ
من الفاصل في الآية الثانية : (كم) ، ومع ذلك ، أنثَ مع الفاصل الأكبر ، وذكَّرَ مع الفاصل الأصغر ، والفعلُ والفاعلُ واحدٌ في الحالتين !! .

    وفي مواطنَ أخرى نجدُ أنَّ الفعلَ والفاعل والفاصلَ واحدٌ ، فَيُذكِّرهُ في موطن ، ويؤنثهُ في آخر ، يقول تعالى :  فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ (الأنعام:157) ، ويقول تعالى : قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ (الأعراف:73و85 ) ، فالفعلُ واحدٌ (جاءَ) ، والفاعلُ واحدٌ (بينة) ، والفاصلُ واحدٌ (كم) ، فمرةً ذكَّر ، ومرةً أنثَ .   
  
     وقال تعالى :  وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ  (هود:67) وقال تعالى : وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ (هود:94) ، فالفعلُ واحدٌ (أخذَ) ، والفاعلُ واحدٌ (الصيحة) ، والفاصلُ واحدٌ (الذين ظلموا) ، فمرةً ذكَّر ، ومرةً أنَّثَ ، ولو تتبعنا مثلَ هذه المواطنِ لطال المقامُ بنا ، إلا أننا نقول : إنَّ  إلحاق علامة التأنيث بفعل الفاعل المؤنث ،أمرٌ يحكمه المعنى والسياقُ والمقامُ .

     إنَّ الحملَ على المعنى " مدارُ كثيرٍ من أحوال التذكير والـتأنيث في القرآن الكريم ، وقد يكون لغرضٍ آخر ، كتنزيل المذكرِ منزلةَ المؤنثِ ، وبالعكس ، أو لغير ذلك من الأغراض " .

     ولنأخذ على سبيل المثال قولَه تعالى : فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ (البقرة:275)، وقولَه سبحانه :   يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ (يونس:57).
    
  فـ (الموعظة) في الآية الاُولى بمعنى (القرآن) ، يقول أبو جعفر النحاس : " ثم قال تعالى :

فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فانتَهَى ،قال سفيان : يعني القرآن " .
  أو إن (الموعظة) بمعنى (الوعظ) ، يقول الواحدي : " فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي : وعظٌ " .

  أو إن (الموعظة) بمعنى (النهي) ، يقول ابنُ كثير : " فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ  ،أي : من بلغه نهيٌّ عن الربا ، فانتهى حالَ وصولِ الشرعِ إليه ، فله ما سلفَ من المعاملةِ " .
  أو إنَّ (الموعظة) بمعنى (البيان) ، يقول السيوطي : " فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ  يعني البيان

الذي في القرآن في تحريم الربا " .

     فلفظ (الموعظة) يُحملُ على معنىً مذكرٍ ، ذلك لأنَّ السياقَ يُوجِبُ كلَّ تلك المعاني المذكورة ، ولا أقولُ أحدَها أو بعضَها ، فـ (الموعظة) هي القرآن الكريم ، وهو دليلٌ على العبد إذا خالفه ، وهو تبيانٌ لما يجبُ على ذلك العبدِ من تركِ محظورٍ منه، أو إتيان مأمور به ، وهو واعظٌ للعبد إذا نَسِيَ ، وناهٍ له إذا تجاوز .

     أما قوله تعالى ذكرهُ في الآية الثانية: قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ (يونس:57) ، فالكلامُ على أصله ، فالخالقُ يخاطبُ الخلقَ مرغباً لهم في خطابه ؛ للإقبال إلى هذا الكتابِ الكريم بذكر أوصافه التي كلها حسَنَة ، وهي ضروريةٌ للعباد ، فقال : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ ، تعظكم وتنذركم من الأعمالِ الموجبةِ لسخطِ اللهِ ، والمقتضية لعقابه ، وتحذركم عنها ، ببيانِ آثارِ ارتكابها ، وما يلحق ذلك من مفاسد .
      فـ (الموعظة) بمعنى (الذكرى) ، يقول القرطبيُّ : " يقول تعالى ذكره لخلقه : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، يعني : ذكرى تذكركم عقابَ الله ، وتخوفكم وعيدَهُ " .

     أو بمعنى (التزكية) ، يقول الألوسي : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي : تزكيةٌ لنفوسكم بالوعد والوعيد ، والزجر عن الذنوب المتسببة للعقاب ، والتحريض على الطاعة الموجبة بفضل الله تعالى للثواب " .
     فنحنُ نلاحظُ أنَّ التذكيرَ مناسبٌ لآيةِ سورةِ البقرةِ ، وأما التأنيثُ ، فهو مناسبٌ لآيةِ سورةِ يونسَ .
     وقولَه تعالى :  فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ (الأنعام:157) ، وقولَه تعالى :   قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ (الأعراف:73و85 ) ، ولمعرفةِ سببِ الاختلافِ ، لا بد لنا من الرجوع إلى سياقِ هذه الآياتِ .

     يقول تعالى قبل آية الأنعام : ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ    وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ    أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ   (الأنعام:154-157) 
     فنحنُ نجدُ أنَّ مدارَ الحديث حول الكتب السماوية : (ثم أتينا موسى الكتاب) ،(وهذا كتابُ أنزلناه) ، (إنما أُنزل الكتابُ) ، (لو أنا أُنزل علينا الكتابُ) ،ثم يقول تعالى : (فقد جاءكم بينةٌ) ، والمقصود بـ (البينة) هنا (القرآن) ، مناسبة للسياق العام الذي يتحدثُ عن الكتب السماوية ، يقول أبو حيان : " والظاهر أنَّ (البينة) هي (القرآن) ، وهو الحجةُ الواضحةُ الدالةُ النيرةُ ، حيثُ نَزَلَ عليهم بلسانهم ، وألزم العالمَ أحكامَهُ وشريعَتَهُ " .

     ويقول الشوكاني : " فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي : كتابٌ أنزله اللهُ على نبيكم ، وهو منكم يا معشرَ العربِ "  ، ولذلك لا يُناسبُ هنا إلا التذكير .

     أما آيتا الأعرافِ ، فالأُولى منهما في قصة نبي الله صالح صاحبِ الناقة ، ولننظر إلى الآية نفسها ، فاللهُ تعالى يقولُ : وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (الأعراف:73) ، فنحنُ نجدُ أنَّ الحديثَ فيها عن الناقة ، وهي معجزتُهُ ، ولوجدنا أيضاً أنَّ تفسيرَ (البينة) يعني (الناقة) ، بدليل :قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً  ، ويقولُ الزمخشري : " قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ ، أي آية ظاهرة وشاهدٌ على صحة نبوتي ، وكأنه قِيلَ : ما هذه البينة ؟ فقال : هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً " .

     فالمقامُ يتطلب التأنيثَ ؛ كون (البينة) ، ناقةَ صالح ، وهي حجته على قومه بصحة نبوته .

    وأما الآية الثانية ، ففي قصة نبي الله شعيب ، يقول تعالى :  وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (الأعراف:85) ، و (البينة) هنا (المعجزة) أو (الموعظة) ، يقولُ الزمخشري : "قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ، معجزةٌ شاهدةٌ بصحة نبوتي أوجبتْ عليكم الإيمانَ بي ، والأخذَ بما آمركم به والانتهاءَ عمَّا أنهاكم عنه ، فآمنوا ولا تبخسوا " .

     ويقولُ أبو حيان : "  و (البينة) هنا الموعظة " ، وواضحٌ أنَّ المقامَ لا يحتملُ إلا التأنيثَ .

     وننتقل إلى قوله تعالى :  وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ  (هود:67) وقوله تعالى : وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ  (هود:94) ، فالآيةُ الأولى في قصة نبي الله صالح ، يقول تعالى :   فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (هود:66و67) .

     وأما الآيةُ الثانية ففي قصة نبي الله شعيب ، يقول تعالى :  وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (هود:94) ، فقد ذكَّر في الآية الأُولى ، وأنثَ في الآية الثانية ، ويقول المفسرون إنَّ هذا من باب الحمل على المعنى ، فعندما يُذكِّر ، يحمل (الصيحة) على (الصياح) ، وعندما يؤنث ، يأخذ اللفظَ على ظاهره ، وهو التأنيثُ ، جاء في مشكل إعراب القرآن : " وقيل إنما حُذفتِ التاءُ ؛ لأنه حمل على معنى (الصياح) ، إذ الصيحةُ والصياحُ بمعنىً واحدٍ ، وكذلك العِلَّةُ في كلِّ ما شابهَهُ " . ولو دققنا النظرَ في سياق الآيتين لوجدنا :
أولاً : 
      في قصة نبي الله صالح ، تكون (الصيحة) بمعنى (العذاب) و (الخزي) ، وهو معنىً مذكرٌ ، يُناسب تركَ العلامةِ من الفعلِ ، والدليلُ قوله تعالى قبل هذه الآية : 
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (هود:66) ، والموافقةُ واضحةٌ .

     ولنتتبع آياتٍ تخصُ قصةَ نبي الله شعيبٍ ، في القرآن الكريم كلِّهِ  :
يقول تعالى :  وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ  فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (الأعراف:90-91) ، ويقول تعالى :  وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ   فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (العنكبوت:36-37) ، ويقول تعالى :  كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ   إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (الشعراء:176-177-189) .
     فنحنُ نجدُ (الرجفةُ) في الأعراف والعنكبوت ، و (الظلةِ) في الشعراء ، وهذان اللفظان يتوافقان تماماً من حيثُ التأنيث مع (الصيحة) في هود ،  ويقول ابنُ القيم : " فإنَّ الرجفةَ بدأت بهم ،فأصحروا إلى الفضاء ، خوفاً من سقوط الأبنية عليهم ، فصهرتهم الشمسُ بحرها ، وَ رُفِعَتْ لهم الظلةُ ، فأهرعوا إليها يستظلون بها من الشمس ، فنزل عليهم من العذاب وفيه الصيحةُ ، فكان ذِكرُ الصيحةِ مع الرجفةِ والظلةِ ، أحسنَ من ذِكر الصياح ، وكان ذِكرُ التاءِ "  .

ثانياً :
      إنَّ الآيةَ التي بعد آية قصة صالح هي : كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (هود:68) ، أما الآية التي بعد آية قصة شعيب ، فهي : كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (هود:95) .

     فنحنُ نجدُ في خاتمةِ الآيةِ الاُولى : أَلا بُعْداً لِثَمُودَ ، تناسباً مع التذكيرِ في آيةِ قصةِ صالح ، ونجدُ أيضاً في خاتمةِ الآيةِ الثانيةِ : كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ، تناسباً مع التأنيثِ في آيةِ قصةِ شعيبٍ ، وهذا تناسبٌ واضحٌ جداً .
       إنَّ السياقَ القرآني لا يتحددُ في آياتٍ متقاربةٍ في سورةٍ معينةٍ ، بل يمتدُ فضاؤُهُ على امتدادِ القرآنِ الكريمِ في سورهِ كلِّها ، كما رأينا في النقطةِ الأُولى .
     مما تقدمَ يتضحُ لنا تمامَ الاتضاحِ أنَّ تذكيرَ الفعلِ مع الفاعلِ المؤنثِ في بعضِ مواضع القرآن الكريم ، أمرٌ راجعٌ إلى المعنى والسياق ، ولا ننسى أنَّ مواطنَ إلحاقِ العلامةِ بالفعلِ مع الفاعلِ المؤنثِ تصلُ إلى ضعفيِّ مواطنِ تركها .


Post a Comment

Previous Post Next Post